مجلة الموقف الأدبي - مجلة أدبية شهرية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق - العدد 398 حزيران 2004
حول المشكلات التأويلية للنصّ الأدبي الوافد
أ.د.عبده عبّود- سورية
لماذا يحتاج العمل الأدبي إلى من يدخل بينه وبين متلقّيه مفسراً ومؤولاً؟ ألا يستطيع المتلقي أن يستغني عن ذلك الوسيط بأن يقرأ النص الأدبي، ويفهمه، ويفسره ويؤّله بنفسه؟ لماذا يحتاج القارئ إلى من يفسّر ويؤوّل له قصيدة للمتنبي أو أبي العلاء أو السيّاب، ورواية لنجيب محفوظ أو حنّا مينة أو الطيّب صالح؟ وقصة قصيرة ليوسف إدريس أو زكريا تامر؟
يرى الفيلسوف الألماني هانس ـ جيورج غادامر (H. G. Ganalamer) الذي يُعد أحد أباء علم التأويل الفلسفي المعاصر أنَّ الحاجة إلى هذا العلم تنبع من حال الغربة التي تنشأ بين العمل الأدبيّ وبين متلقيه.
فهذه الغربة تجعل فهم النص الأدبي عسيراً على المتلقي، مما يولد في نفسه امتعاضاً وعدم ارتياح، ويأتي الجهد التفسيري ليعيد الألفة إلى علاقة النص بالمتلقي، وذلك بأن يساعد الأخير في فهم النص، فتزول حال الغربة التي نشأت يبن الطرفين، ويزول مصدر عدم الارتياح الذي توّلد في نفس المتلقي نتيجة عدم تمكنه من فهم النص الأدبي. هذا هو أصل المسألة الهرمنوطيقية، ومنه يستمد علم التأويل مسوغاته ومشروعيته(1).
ولتلك الغربة في حالة النصوص الأدبية الوطنية مصدران رئيسيان: أوّلهما الفجوة التاريخية بين العمل الأدبي ومتلقيه. فللعمل الأدبي أفق تاريخي، وهو أفق العصر الذي أُنتج فيه. إن شعر المتنبي، على سبيل المثال، يعبّر عن زمن المتنبي وما ساده من ظروف سياسية واجتماعية وأدبية وثقافية.
ولكي نفهم شعر المتنبي لابدّ لنا من أن نسترجح ذلك الأفق التاريخي وأن نعيد بناءه، وهذا هو الشقّ الأول للجهد التفسيري. وعندما يقوم علم التأويل بذلك، فإنه يزيل قسماً من عدم الفهم والغربة اللذين يحسّ بهما المتلقي المعاصر حين يقرأ نصاً أدبياً قديماً كشعر المتنبي.
ولكنَّ الجهد التأويلي لا يقتصر على استرجاع الأفق التاريخي للنص الأدبي وإعادة بنائه. فالمتلقي شخص معاصر ذو أفق معاصر، لا يستطيع أن يتجرد منه، وأن يتلقى النصّ الأدبي ويفهمه انطلاقاً من أفقه التاريخي فحسب بل من المحتّم أن يدخل الأفق المعاصر في عملية التلقي وأن يؤثر فيها. إنّ النصّ الأدبي القديم يخاطبنا ويثير استجاباتنا لأنه يخاطب أفقنا المعاصر، فإن لم يكن قادراً على ذلك فإننا لا نتفاعل معه ولا نستمتع به ولا نستجيب له جمالياً وفكرياً. فعلمية التلقي تنطوي على تلاحم يتم بين أفقين: الأفق التاريخي للنص، والأفق المعاصر للمتلقي. لذا يكمن الشق الثاني من الجهد التفسيري في توضيح ذلك الأفق وتحليله. فلكي أعرف الآخر، أي النصّ الأدبي، لابدّ لي من أن أعرف نفسي باعتباري متلقياً لا ينطلق عند قيامه باستقبال ذلك النص من نقطة الصفر أو من بقعة بيضاء، بل من أفق معاصر.