مجلة الموقف الأدبي - مجلة أدبية شهرية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق - العدد 395 آذار 2004
السياق والتأويل من الإشكالية الفيلولوجية إلى الأإشكالية اللسانية
د.أحمد حساني- الجزائر
تعد إشكالية السياق من الإشكاليات الفاعلة في تشكل الوعي المنهجي لثقافة النص وترقية آليات تحليله وتمثل مضامينه تفسيراً وتأويلاً، فإذا هي ترتبط بمعطيات معرفية ومنهجية في الوقت نفسه لتأطير مسار احتواء المجال الإدراكي للنص وتفعيله، باستثمار حصيلة ثرية لعلوم تعاقبت في تاريخ قراءة النص، وأثمرت هذه الحصيلة وتفاعلت نتائجها واكتملت في أصفى صورة لها فيما أضحى ينعت الآن بلسانيات النص أو اللسانيات التداولية أو هما معاً.
إن الخاصية المميزة لبنية النص تستدعي تكامل معارف وتلاقي إجراءات ومهارات تطبيقية لمقاربة النص المنجز في الثقافة الإنسانية، وهو الأمر الذي جعل لسانيات النص تتبوأ مكانة علمية ومنهجية تؤهلها مرجعياً وإجرائياً لإيجاد إجابات علمية كافية لكثير من التساؤلات التي تطرحها إشكالية النص، وتذليل الصعوبات والمعوقات التي تعترض سبيل القارئ المفترض لنص ما مهما كان الحقل المعرفي والثقافي الذي ينتمي إليه هذا النص.
ومن ههنا أضحت لسانيات النص علماً جامعاً لمجالات واهتمامات معرفية مختلفة؛ إذ أنها في توجهها الجديد تتوخى مبدأ التوحد والتكامل بين معارف لها شرعية الحضور في مقاربة النص، فهي إذ ذاك منوال إجرائي يتخذ النص موضوعاً له، بتحليل مضامينه والتعرف على مشروعية إنتاج هذه النصوص وضبط نمط بنائها وأثرها في سيرورة الخطاب المنجز في مجتمع لغوي معين.
كما أن اللسانيات التداولية؛ وهي رافد من الروافد التي تسترفدها لسانيات النص، تسعى إلى ضبط العملية التلفظية من حيث هي فعل تواصلي يتحقق في موقف سياقي في الفضاء الثقافي والاجتماعي الذي يشكل حوالية النص، وهو ما ينعت عادة بسياق النص، ولذلك فإن مبحثها يتمركز أساساً حول العلاقة بين النص والسياق الذي يشكل الحوالية اللسانية والثقافية والاجتماعية للنص المقصود، وهي إذ ذاك تهتم بتحديد الشروط الملائمة لكي تكون الملفوظات مقبولة لدى المتلقي، بعينه.(1) وناجحة في تحقيق العملية التواصلية في سياق يقترن مفهوم السياق بوظيفتين متناقضتين في الظاهر إحداهما: توحي بوجود نوع من التعقيد والتشعب في تصنيف الوحدات اللسانية فلا يستطيع المتعقب لهذه الوحدات أن يضبطها ضبطاً مانعاً للبس والإلهام.
والأخرى: توحي بالتفاعلات القائمة بين الوحدات التي تتواتر فيها عادة، ولكنها لا تسمح بضبطها (Environment) وحواليتها ضبطاً دقيقاً، ومن ههنا، فإن منوالها الإجرائي الذي يتخذها موضوعاً له هو علم الدلالة التأويلي.(2) يمكن لنا أن نميز، في رحاب علاقات المسار التأويلي وتوجيهاته، بين ـ السياقات الفاعلة؛ أي مجموعة الوحدات الدالة التي تمتلك القدرة على التأثير في العناصر اللسانية المحددة في نسقها اللساني المألوف.
ـ السياقات غير الفاعلة: أي مجموعة الوحدات الدلالية الصغرى التي تستقبل ذلك التأثير في النسق نفسه.(3)
قيماً مختلفة لهذه الإشكالية التي نحن يحمل مفهوم السياق، حينئذ، نقاربه في ضوئها، فهو يستخدم للدلالة على حالتين اثنتين. إحداهما: إدراج شكل محدود داخل الكلية في الإجراء التأويلي والأخرى: ربط البنية اللسانية بالخارج بشرط أن يكون هذا الربط من أجل إنتاج المعنى.
قد يجد المتأمل للاستعمال المعاصر لمفهوم السياق غموضاً يتعلق بالوظيفة الإجرائية لهذا المصطلح، فهو من جهة يقترن بحالة التلفظ التي ترتبط بالواقع، ومن جهة أخرى يقترن بحالة التأويل من حيث هي إجراء السياق بقوله: "هو كل معلومة ضرورية وكافية Michel Mager, يعرف لتبليغ حالة المتكلم إلى المتلقي باستخدام الخطاب (كلمات، جمل،) ومعناه هو المعنى الذي يتضمنه هذا الخطاب.(4)
ويعرف بعضهم السياق بقوله: "هو حقيقة ذهنية محددة بنشاط شخص يوجد في وضعية استقبال رسالة أو إنتاجها."(5)
فإذا ما دققنا النظر في السياق اللساني نجده يتميز بوظيفتين متقابلتين لهما صلة بالعلامة والنص معاً:
أ ـ هو بالنسبة للعلامة بوصفها وحدة النسق السيميائي داخل النص، مجال يتوسع فيه الحقل الدلالي للعلامة ويمتد ليشمل حقولاً دلالية أخرى ويتقاطع معها.
ب ـ وهو بالنسبة للنص؛ عامل تحديد وتقييد لمجاله التفسيري والتأويلي.
يمكن لنا، حينئذ، أن نميز، في ضوء إشكالية العلامة أو إشكالية النص، بين مفهومين للسياق، يرتد أحدهما إلى العلامة، ويرتد الآخر إلى النص.
1ـ ما يتعلق بالعلامة:
إذا اعتبرنا العلامة نمطاً أو نموذجاً له مجاله وموقعه التواتري المألوف فإن للسياق تأثيراً في إعادة تشكيل هذا النمط، ويضفي عليه صفات وخصائص طارئة لا يمكن له أن يتصف بها من حيث هو وحدة مقصودة بمعزل عن السياق.
ومن ههنا فإن هذه الصفات الجديدة التي تلحق بالعلامة لها مسوغات خارجية تسهم في تعديل الدلالة ولكنها لا تفسرها، وما كان ذلك إلا لأن معرفة معنى كلمة (علامة) معينة هو في حقيقة أمره إمكانية استدعاء حواليات متجانسة في النص نفسه أو في نصوص أخرى.
2ـ ما يتعلق بالنص:
يعد السياق في هذه الحالة منطقة تموضع فهو لا يتمركز حول العلامة؛ لأن السياق ههنا ليس بسياق كلمة، بل هو سياق فقرة كاملة أو قطعة مؤلفة من النص المقصود، ولا يمكن إغفال دور العلامة بوصفها الوحدة الدلالية النواة في اختيار القطعة أو مجموعة فقرات موازية لكن على الرغم من ذلك كله(Sous -- corpus) جزء من مدونة فرعية ستظل الفقرة هي الوحدة الأساسية التي تستقطب الإجراء التأويلي في ضوء علاقة السياق بالنص.
إن الباحث الذي يسترفد الإشكالية العامة للسياق لا مناص لـه من أن يستدعي مبدئياً إشكاليتين متلازمتين للمنحى الإبيستمولوجي لنظرية السياق، تبدوان مختلفتين تأصيلاً وحدوداً ولكنهما تتفقان في جعل السياق وسيلة كاشفة ترتد إحداهما إلى المنوال النحوي ـ المنطقي، وترتد الأخرى إلى المنوال البلاغي ـ الفيلولوجي.
يحسن بنا ههنا أن نعيد هاتين الإشكاليتين لمدارستهما الواحدة تلو الأخرى.
أولاً ـ الإشكالية النحوية ـ المنطقية:
تضطلع هذه الإشكالية، بمنحاها الصوري، بإيجاد التفسير الكافي الموضوعي للدوال من حيث وضعيتها وقيمها الرمزية ووظيفتها التركيبية، فهي بناء على خصوصيتها المنطقية لا تتوانى في تقديم صورة معيارية للمعنى، وتنكر وجود المساواة النوعية، وترفض درجة التعقيد التي قد تعتري تعاقب العلامات اللسانية في حواليتها التي تلازمها وتتبدى فيها باطراد في سياقها الخطابي المألوف. فهي، إذ ذاك، تسلم بالمعنى الحاصل في كل مستوى من مستويات الفضاء السياقي المفترض، وتتوخى الموضوعية المطلقة في إجراءاتها التطبيقية، وتحرص حرصاً شديداً على تفسير العناصر الدلالية المميزة بوضع التعريفات وضبط الحدود، وهي بهذه المواصفات التي أومأنا إليها تنعمد على مرجعية تستمد أصولها النظرية من النزعة العقلانية للنحو العام والفلسفة القديمة.(6)
ولئن كانت هذه الإشكالية تلجأ إلى معايير الوضوح والتجلي، بوصفها العوامل الوحيدة القادرة على تبرير المعنى الأدبي، فهي تتبنى وجهة نظر غير نقدية وتتجنب ربطها بالأشكال الدوغماتية(7) لهذا التيار الفلسفي.
يعد إنتاج الخطاب وتأويله، في تصور هذه الإشكالية، عملية رياضية يطغى عليه الطابع التجريدي وتتشكل البنى العميقة ـ منطقياً ـ بتشكل النص، من حيث هو نطاق جامع للأنماط (العلامات) والمواقع التواترية ويرتبط الكل بمثالية النص.
ولذلك يقال، في رحاب هذه النزعة، السياق الجيد هو الذي يزيل اللبس ويسمح بإعادة الموقع التواتري إلى النمط (العلامة) المطابق له، ويضفي على المعنى الأدبي شفافيته المتوخاة، وبالمقابل يعد السياق فهو اضطراب (السيئ تشويهاً للعلاقة القائمة بين الموقع والنمط) العلامة في العلائق وتشويش في التمثلات الذهنية لهذه العلائق، ومن ثمة يصبح تدميراً لبنية النص، وتفكيكاً لوحدته.
ثانياً ـ الإشكالية البلاغية ـ الفيلولوجية
من خصائص هذه الإشكالية أنها تنفلت من ضغوط التجربة الرياضية المنطقية، وترفض الآلية التوليفية المجردة، وتصر على التنوع الكيفي. ولذلك فهي، في تعاملها مع السياق، تعيد الاعتبار للأشكال اللغوية وتشجب الأنماط الرياضية.
أضحى من الضروري، حينئذ، في رحاب هذا التصور للعلائق الدلالية داخل السياق، أن تطرح بحدة قضية المجال الإدراكي للعلامات اللسانية سواء أكان ذلك على مستوى التفسير أم على مستوى التأويل، فلا نجد بداً ونحن في هذا السبيل من أن نميز بين نوعين من الإدراك:
أ ـ الإدراك الدلالي: هو تصور ذهني وعمل فكري يتمركز حول المعنى الأساسي في التركيب، فهو لا يتجاوز منطقة الحقل المعجمي، ولذلك يمكن لنا نعته بالإدراك التفسيري الخالص، غير أن هناك عصبة من الدارسين ترفض وجود الإدراك الخالص.(8)
ب ـ الإدراك التأويلي: هو إجراء موحد للشكل والمضمون، ويتناولهما بوصفهما وحدة متجانسة ومتكاملة، ويرتد في أصوله إلى المنهج الفيلولوجي الذي وطد السبيل لتكريس هذا الجمع والتجانس بين الشكل والمضمون، ويبتعد نسبياً عن الفلسفة التي ما فتئت تعمل على عزل أحدهما عن الآخر.
ثالثاً ـ حدود اللسانيات في دراسة السياق
يطرح السياق بعض المشاكل الأبيستمولوجية التي يستعصي حلها من وجهة نظر النزعة الوضعية. نجتزئ بذكر بعض هذه المشاكل ههنا لأهميته:
أ ـ إن السياق غير متميز وغير قابل للتمييز، ومن ثمة لا يمكن لنا بيسر وصفه وإخضاعه للتجربة والاختبار، وهو الأمر الذي يجعله يتماشى مع النزعة الذرية، في حين أن العلاقات الرابطة بين الوحدات المتجاورة يمكن لها أن تمثل الشكل المنطقي المناسب، ما دامت متميزة وقابلة للتميز في ذاتها. ومن ههنا فإن العلاقة بين الوحدة وسياقها التي تتوارد فيه عادة هي علاقة بين المتميز وغير المتميز، بين المطلق والنسبي، بين الجوهري والعرضي. وعلى العكس فإن القيمة التفريعية للسياق تقتضي إنكار التراتبية(9) التي تدخلها أشكال الاختلاف الأنطولوجي.
ب ـ لا يدخل السياق في العلاقات التوليفية ولا يتوافق مع مبدأ التكوين أو التراكيب.
وتأسيساً على هذه الخصوصية التي ينماز بها السياق فإن النظرية اللسانية المعاصرة تعوق سبيلها معضلة إخضاع السياق لمجالها التنظيري، فهي بحكم طبيعة إجرائها، لا يمكن لها أن تتجاوز مستويات التحليل اللساني التقليدية (المستوى الصوتي، المستوى التركيبي، فوظيفتها محدودة الدلالي)، فهي مشدودة إلى هذه المستويات شداً، بحدود هذه المستويات التي تضطلع بإيجاد التفسير العلمي الكافي لها.
في ظل هذا التوجه المنهجي تحاول اللسانيات أن تعطي السياق تعريفاً توزيعياً؛ فهو الوحدات المباشرة التي تشكل النطاق التجاوري للعلامات بوصفها وحدات النسق السيميائي في النص.
بيد أن التجاور، من وجهة نظر علم الدلالة، لا ينبغي له أن يختلط بمفهوم السياق على الرغم من أن التفاعلات الدلالية بين العلامات تسمح بذلك، بحكم صلة القرابة، فإن ذلك لا يكون إلا لاعتبارات نفسية فحسب، ومع ذلك تظل هذه التفاعلات أكثر ثراء في السياقات الواسعة، بما تقدمه من حمولة دلالية، وهو الثراء الذي تفتقر إليه السياقات الضعيفة ولا تسمح به وما ينبغي لها.
إذا جاز لنا القول إن العلامات بوصفها أنماطاً تتحدد دلالياً بمواقعها التواترية، التي تتوارد فيها عادة، فإن السياق في هذه الحالة ليس له دور في تغيير المعنى بقدر ما له دور مؤسساتي نسقي، وما كان ذلك إلا من جانبها لأن العلامات، من حيث هي وحدات النسق أو النظام، تحدد الشكلي، وتفسر من جانب المضمون في إجراء تأويلي تكاملي يتخذ النص كاملاً موضوعاً له.(10)
1ـ نمط النسق ونمط السياق
مما لا ريب فيه هو أن النسق اللساني يضطلع بتقديم لائحة مفتوحة من العناصر الصوتية المقترنة بمعنى، وبمجموعة من قوانين التأليف، وما عدا ذلك يضطلع به العمل داخل النص، باستثناء الرياضيات التي لا تعرف إلا نظاماً واحداً، فتعود، حينئذ، مشكلة السياق إلى التفاعل العلامات)، وتعود كذلك إلى العلاقات الوظيفية (المحلي بين الأنماط). للتنظيم أو البناء (النظام القواعدي للغة معينة).
ومما لا يغرب عن أحد أيضاً هو أن البنى السياقية هي أقل ارتباطاً بالنظام الوظيفي للغة، وهو الارتباط الذي يتوكد ويشتد بالأنظمة المعيارية الأخرى (الأنواع الأدبية الأساليب)، إذ لا يمكن للإجراء الوظيفي أن يتعامل مع العلاقات السياقية ويتخذها موضوعاً لإجراءاته إلا في نطاق الجملة من حيث هي الوحدة الكبرى للتحليلي الوظيفي.
في حين أن معايير الأنواع تحدد العلاقات السياقية وتعينها عموماً في حيز أكثر اتساعاً من حيز الجملة، فتبحث في حقيقة التفاعلات الكائنة بين عناصر سياقية كبرى، كالتفاعل بين المدخل والخاتمة في مقال ما. كما أن معايير الأسلوب الشخصي تسعف هي أيضاً على تشكيل علاقات سياقية لأقسام كبرى، كما أنها تساعد كذلك على تحديد الوحدات السياقية الكبرى التي يعول عليها في الإجراء التأويلي أكثر من الوحدات الصغرى التي قد لا تتجاوز حدود الكلمات.
فإذا ما التفتنا التفاتة عجلى إلى المسار الذي سلكه المبحث اللغوي يتبين لنا أن الفكر النحوي، في تشكله عبر الحقب الزمنية المختلفة، كان همه دائماً هو وضع معايير قارة وثابتة يستخدم وفقها الاستعمال الفعلي للغة، فتكرست في رحاب هذا المنحى المبادئ المعيارية التي تصطنع النموذج المثال القائم على مفهوم البنى الأصولية المقبولة المستعملة والمفترضة.
فلما ظهرت اللسانيات بعد أفول المنوال النحوي المنطقي والفيلولوجي لم تستطع أن تحدث القطيعة بيسر، فظلت إلى حين حبيسة مبدأ النحوية (التمسك بالجمل الأصولية المقبولة مبنى ومعنى)، فهذا الانجذاب نحو المعيارية عاق سبيلها ومنعها من الإقرار بأن موضوعها، على الرغم من كونه حدثاً معيارياً، هو موضوع قابل للوصف العلمي، فهي، حينئذ، مطالبة بوصفه أكثر من أن تسن له القوانين الثابتة.
في ضوء هذه التراكمات المعرفية يمكن لنا أن نقسم عناصر الإشكالية التي نحن بسبيلها إجرائياً إلى ثلاثة مستويات: مستوى الكلمة، مستوى الجملة، مستوى النص.
1ـ مستوى الكلمة
إذا ما تأملنا ملياً تعدد المواقف واختلاف السياقات التي تلازم الخطاب المنجز في الثقافة الإنسانية ندرك لا محالة أن التغير الدلالي للعلامات اللسانية أضحى سمة طاغية في الأداء الفعلي للخطاب؛ فإذا هي حالة طارئة تطرح مشكلاً حقيقياً، حسب رأي بعضهم، لأنها تدحض التفسير الدلالي القائم على الصلة الدائمة بين دال معين ومدلول معين يظل يصاحبه في اطراد رتيب حسب ما تقتضيه الطبيعة الاعتباطية للعلامة، التي هي في حقيقة أمرها عرف اصطلح عليه أفراد المجتمع اللغوي وتواضعوا على اصطناع دال معين للدلالة على مفهوم معين، ثم تشيع هذه العلاقة في عرف الاستعمال وتثبت فتستحيل إلى علاقة سببية اطرادية.
وبناء على ما ذكرناه في هذا المقام فإن الانتصار للدلالة السياقية والاستمساك بها يؤدي بالضرورة إلى الانتقاص من حقيقة المواضعة، من حيث هي عقد شرعي لتبرير اعتباطية الحدث اللساني، غير أن هذا العقد لا يستقيم له أمر إلا بالاستعمال.
في هذا الشأن: "لا أحد يستطيع إنكار صحة أي شكل Piotrowski يقول من أشكال الوجود في صلته بأي شكل من أشكال المعرفة داخل اللغة بمعزل عن السياق الاستعمالي(11).
إذ ما انفك يؤكد دور J C Milner نجد هذا التصور أيضاً شائعاً لدى الاستعمال السياقي في تثبيت اللغة عبر مسارها. يقول: "قد تكون المعرفة الضرورية والمفترضة عن طريق الاستعمالات اللغوية المتداولة أكثر من المعاجم وجداول التصريف"(12).
تعمل وسائل التثبيت اللغوي بمعياريتها السائدة (المعاجم وجداول التصريف) على عزل الأداء الفعلي للغة عن سياقه المألوف والمفترض، فهذه الوسائل تقتطع مفردات اللغة من فضائها الاستعمالي الواسع، وتختلي بها في نطاق تجريدي يفقدها سعتها الاحتمالية فيضيق مجالها ويتقلص استعمالها.
وذلك ما يلاحظ في آليات التفسير المعجمي الذي يركن إلى المداخل المعجمية لتعقب السمات الدلالية ضابطاً إياها في متواليات تفريعية تظل حبيسة حقلها المعجمي، فهذا العزل والتحييد يخل بعلاقات التفاعل بين العلامات اللسانية ومواقعها التواترية المفترضة.
لما كانت السياقات الخيالية للوحدة الدلالية: "(Todorov) يقول تودوروف لا تحصى ولا تعد، فهذا يعني أن في كل سياق جديد تأخذ الكلمة دلالة مختلفة، هذه المسلمة تؤدي إلى نفي كل إجراء لعلم خاص بالدلالة."(13) بحكم أن علم الدلالة يقتصر في إجرائه على الدلالة غير السياقية.
2ـ مستوى الجملة
تشكل الجملة، من وجهة نظر وظيفية، وحدة تركيبية مستقلة عن السياق فهي، إذ ذاك، الإطار الوظيفي الذي تتحقق فيه العملية الإسنادية لإنتاج المعنى في الواقع الفعلي للغة. فالجملة في نظر جورج مونان هي "ملفوظ تام باعتبار المعنى." Georges Mounin(14) هي كل ملفوظ تتصل عناصره (A. Martinet) والجملة لدى أندري مارتيني بركن إسنادي وحيد أو متعدد عن طريق الاتساع(15).
نلاحظ من خلال تأملنا لهذين التعريفين أن مجال الجملة يتقلص إلى حدود البنية التركيبية التي تتكون أساساً من علاقة إسنادية ينتج عنها حكم، ويتحقق معناها المنطقي بمعزل عن السياق. فالسياق الذي يختار لتفسير المعنى في نطاق الجملة يظل محاطاً بالشك والاضطراب، من حيث الطريقة التي يمكن لنا أن نتناوله بها، فقد يعسر علينا ضبط قيمة الصدق للحكم الخبري في الجملة اللامنطقية، حيث تكون الدلالة مستقلة.
يفترض هذا الإجراء، حينئذ، أن تطرح بعض التساؤلات حول معنى الدلالة التامة، وحول حدود مجالها الإدراكي. وستظل الأمثلة التي نسترفدها لتوضيح ذلك مجرد افتراضات.
قد يعسر علينا، من وجهة نظر تأويلية، إخراج كل قسم غير تام أو بالأحرى غير محدد في نص ما من هذه العدمية التعيينية أو التحديدية أو بتعبير آخر لا يمكن لنا إخراج هذا القسم من حيز الغموض إلى حيز التجلي إلا عن طريق عملية سياقية قصوى.
3ـ مستوى النص
إذا اعتبرنا النص نمطاً من الناحية الإجرائية، والملفوظ موقعاً تواترياً، فإن التمييز بين الجملة والملفوظ يتحول إلى مستوى أعلى، ولتوضيح ذلك يقترح بعضهم هذه العلاقات الترابطية:
(Contexte) السياق = (Discours) ـ الخطاب (texte)أ ـ النص
(Contexte) السياق + (Texte) النص = (Discours) ب ـ الخطاب.
إن نظرة عجلى إلى هذه العلاقات المفترضة تهدي إلى أنه قد يصعب علينا معرفة العملية الممكنة التي نستخدمها في إدخال السياق أو إخراجه في تعاملنا مع نص ما، فهذه الصعوبة تعني أن هذه العملية في جوهرها أنطولوجية؛ معنى ذلك أن النص يأخذ صفة النمط القابل لمختلف المواقع التواترية(16).
نخلص إلى القول، بعد هذه الإطافة المقتضبة في حقل خصب من حقول المعرفة اللسانية، إن الإشكالية التي استرفدناها بكل روافدها: النحوية ـ المنطقية والبلاغية ـ الفيلولوجية، واللسانية تنتهي إلى التمييز التقابلي بين سلسلتين من المفاهيم التي تعد مسوغاً للأخذ بالسياق أو تركه، تتبدى هذه السلسلة في الثنائيات التقابلية التالية:
خارج السياق: | دلالة | جملة | نص |
داخل السياق: | معنى | ملفوظ | خطاب |
وبناء على هذه الحصيلة التي تحققت لدينا يتبدى أن عملية عزل السياق في الإجراء اللساني الصرف هي شرط ونتيجة في الوقت نفسه، لأن الباحث اللساني كان همه في البدء الوقوف عند مستويات اللسان (أصوات تراكيب دلالة) ولكن اللسانيات النصية تجاوزت هذه الحدود الصارمة، إذ انتقلت المقاربات اللسانية من البحث في الدلالة والجمل والبنى النصية المغلقة إلى البحث في المعاني السياقية والملفوظات والخطابات في فضائها الدلالي الواسع.
ومن ههنا فإن العلاقة بين النمط (العلامة) والموقع التواتري، كما تتصورها الإشكالية المنطقية ـ النحوية يمكن لها أن تدرج ضمن الإشكالية البلاغية ـ الفيلولوجية فتعدل منهجياً وتصبح علاقة بين الموقع التواتري الأصل والاسترجاع أو الإعادة؛ أي العلامات الواردة في الحقل الدلالي السياقي الجديد.
وبناء على هذه القيمة التفاعلية يمكن للمواقع الأصلية أن تتقنن، كما يمكن لهذه الاسترجاعات والإعادات أن تعدل، وتحول المواقع الأصلية، ومن ثمة يجد الإجراء التأويلي نفسه أمام العلاقة الآنية بين الأنماط (العلامات) ومواقع التواتر، ولكن مع مرور الزمن تضعف هذه العلاقة وتهين إلى درجة القطيعة، ويعود ذلك إلى أن الموضوع الأدبي ليس نمطاً (بالمعنى المنطقي) بل هو مجال مفتوح من التغيرات والتحولات، وقد يعزز التناص هذه التمظهرات والتطورات والإرجاعات المتكررة.
2ـ السياق وإشكالية النص
أصبحت علاقة السياق بالنص قطب الرحى في التحول المنهجي للنظرية اللسانية المعاصرة التي توسع مجالها الإجرائي لتشمل حقولاً معرفية مختلفة، الأمر الذي جعلها تضطلع بإعادة التفسير العلمي الكافي لكل الخطابات المنجزة في الثقافة الإنسانية.
لقد تحول البحث اللساني من السعي إلى إيجاد المعيار وتقنين الاستعمال، إلى وصف المدونة ومعاينتها وتحليل مكوناتها تحليلاً موضوعياً، هي الآن تنحو نحو التداولية (Linguistique de corpus) فلسانيات المدونة تبحث عن علاقتها بحاجات المجتمع التواصلية، وارتقت (Pragmatique) بفضل التطور السريع والمكثف في ميدان الإعلام الآلي، وتعدد فساعد هذا التطور على إيجاد تطبيقات Multimédias القنوات الإعلامية جديدة كإدخال علم الدلالة في البنوك النصية.
في ضوء هذا التحول العلمي للبحث اللساني أصبحت الإشكالية النحوية ـ المنطقية عاجزة، إذ إن مجالها لا يتعدى العلاقات النمطية الصورية، أما الإشكالية البلاغية ـ الفيلولوجية، يمكن لها أن تكيف وتدمج في الإشكالية اللسانية العامة.
أ ـ النص والمكتوب
إلى عهد قريب من تاريخ تناول النص ومقاربته كان المكتوب هو الموضوع المثالي الذي لا ينافسه سواه، فلقد دأب النحو الكلاسيكي على استنباط القوانين والمعايير واسترفاد نصوص مكتوبة تعد نموذجية، وقد سلكت الفيلولوجيا المسار نفسه في تفسيرها للنصوص، إذ لم تتخل عن مبدأ النص المثالي الذي يعد هدفاً ووسيلة في الوقت نفسه.
أما اللسانيات المعاصرة، بخاصة عندما ابتعدت عن الفلسفة، فإنها أعادت الاعتبار إلى المنطوق المغيب في الدراسات السابقة، وبدأت صلتها بالمكتوب تضعف باعتبار المكتوب صفة ثانوية لحقيقة الظاهرة اللغوية، فقد جعلت المنطوق موضوعها المفضل والأساسي وتعزز هذا التوجه بالنزعة التداولية للبحث اللساني المعاصر.
في رحاب هذا التحول المنهجي حل الخطاب محل النص وأضحى طاغياً على ما سواه في كل إجراء يتناول العملية التلفظية وإنتاج الملفوظ وتأويله، من حيث أن الخطاب في جوهره تفاعلات نطقية شفوية. وبحكم (Situation) فعرف السياق، حينئذ، بأنه تجاور موضعي أو موقف أن الوضعية المنطقية توليفة تصبح المعاني الأدبية للتغيرات الفرعية التي يتضمنها النص مستقلة عن سياقاتها المألوفة، فتتقلص السياقات إلى مواقف وتعالجها بمفاهيم المرجعية.
فإذا عدنا إلى بدء، لنتأمل الإشكالية النحوية ـ المنطقية، نجد المكتوب في ضوء هذه الإشكالية يقتضي، بحكم صفته الذاتية، العزل وعبر عنه Auroux السياقي وهو فعل يلاحظ باستمرار وذلك ما أومأ إليه بمصطلح الموت في حقل إنتاج النص بقوله "النص المكتوب هو حالة من الموت."(17)
يتميز المكتوب بعدم الاستقرار قد يكتسب شكلاً آخر من العزل السياقي في انتقاله من نص إلى آخر، فهو لا يرتبط دائماً بالموقف المألوف الذي يلازمه افتراضاً بل يبتعد عنه من أجل اكتساب سياق آخر.
وإذا اعتمدنا كذلك الإشكالية البلاغية ـ الفيلولوجية نلفي قصوراً آخر للسياق، لأن طبيعة هذا المنوال تقتضي بالضرورة ألا يوضع السياق للحاضر فحسب، بل يوضع كذلك للغائب المفقود، فهو من ههنا يتجاوز الموقف ويتعداه.
فإذا أجرينا مقابلة بين مفهومي السياق والموقف يتبين لنا أن الموقف في الخطاب الشفوي هو الذي يتحكم في السياق، أما في المكتوب فإن السياق هو الذي يوجه الموقف ويتوخاه في الآن نفسه.
ب ـ السياق والتناص
لقد أمسى سائداً في عرف الدارسين أن السياق، من وجهة نظر إشكالية العلامة، لم يعرف على أساس أنه علاقة بين مجموعة نصوص، فالسياق التناصي لا يستقيم له أمر إلا بتكملته بالسياق الخارجي الذي لا يختزل في الموقف، ولكن له مجال أرحب في التناص، من حيث هو نقاط ارتكاز وعلاقات تقاطع بين حقول دلالية مختلفة.
أما إذا نظرنا للسياق من وجهة نظر إشكالية النص فإننا نجد النص يراقب السياق، فيتوزع إلى مناطق الموقف، وتتحدد العناصر المميزة للموقف بتحليل النص؛ لأن كل نص، بنوعه الأدبي، يظهر في حالة تطبيق، ويسمح النوع الأدبي بربط السياقات والكيفيات السيميائية بالتطبيق الجاري.
إذا أخذنا بعين الاعتبار أهمية مقاييس النوع الأدبي يتبدى لنا أن النص (corpus) نفسه لا يعدو أن يكون كلية للعبور، فيؤول كل نص ضمن مدونة قد تم تكوينها في أول إمكان لهذه النصوص التي تنتمي إلى النوع الأدبي نفسه، ومن ثمة فهي تقتضي التطبيقات نفسها.
لا يمكن لنا أن نفهم بيسر أي خطاب إلا في إطار تاريخ إنجاز عدة خطابات التي تكون الذاكرة المشتركة لجماعة القراء الافتراضيين، ومن ههنا، يستحيل النص إلى حيز خصب للتعارف والألفة بين السياق والتناص(18).
يمكن لنا بعد هذه المقاربة المقتضبة لظاهرة هامة من ظواهر إنتاج الخطاب وتأويله أن نجمل ما استخلصناه فيما يلي:
1ـ لا يتحدد المعنى في التمثل الذهني المجرد، وفي الوصف المادي الصوري، بل يتحقق ذلك في إطار النص الذي هو النطاق الشامل الذي تتكاثر فيه المعاني وتتولد وتسلك سبلاً أخرى ما كان لها أن تتوارد فيها لولا شرعية النصوصية، ومن ثمة فإن التأويل، من حيث هو تفاعل القارئ مع المقروء، لا ينبغي له أن يقتصر على إيجاد التفسير الكافي للعلاقة بين العلامة ومرجعها الغائب الذي تنوب عنه، بل يجب أن يتجاوز ذلك ليضطلع بتفسير العلاقة بين العلامة والنص الذي وردت فيه، والمسوغ الذي يمكن أن يسترفد ههنا هو أن الإجراء التفسيري داخل النسق اللغوي، يقابله الإجراء التأويلي في الخطاب.
2ـ يعد السياق، من وجهة نظر الإشكالية النحوية ـ المنطقية، والبلاغية ـ الفيلولوجية عامل انسجام وتطابق لنظامي التفسير والتأويل (من حيث التجلي والغموض) وذلك باعتماد استعمالين اختياريين للسياق:
أ ـ من أجل تجلية الغموض الظرفي (بربطه بالموقف، أو بربطه بنص آخر).
ب ـ من أجل وضع إشكالية واضحة المعالم للصعوبات والعوائق العامة.
3ـ يسخر السياق للكشف والإيضاح أو جلوة الغامض وتذليل الصعوبات التي تفترض القارئ لكونه يقدم فهماً مسبقاً، فهو مهيأ لذلك بافتراض معارف معطاة عرفياً وتقليدياً ويستمد قيمته التفسيرية، سواء أكان ذلك من حيث اعتماده على هذا التقليد الذي يزود القارئ بالثقة في نقاط الارتكاز الخاصة بالمسار التأويلي، أم من حيث كونه عاملاً تكميلياً لهذا التقليد واستمراراً له، فعندما ينوب السياق عن التقليد أو العرف فهو يعيد تدوين النص ضمن الثقافة التي أنتجته. فإنكار السياق هو إنكار للعوامل الثقافية وأثرها في اكتمال الخطاب المنجز بخصائصه الثقافية والحضارية.
4ـ السياق في حقيقة أمره ليس علة لوجود المعلول، فالسياق شرط وليس بسبب، إذ لا يمكن له أن يكون سبباً للوجود الإمكاني ولا للوجود الضروري، كما أن الموقف لا يمكن له أن يكون محدداً تحديداً نهائياً، ثمة لأن نطاق التفاعلات التمثيلية هو الذي يحدد النطاق السيميائي، ومن ينبغي لنا التفكير في إيجاد المسوغ لتوسيع المقاربة السيميائية لتشمل السياقات غير السيميائية تقليدياً.
5ـ ما ينبغي أن نطمح إليه أيضاً هو انتقال التفكير حول السياق من وجهات النظر الفردية إلى نظرية نقدية مؤسسة بمرجعية فكرية لها مفاهيمها واصطلاحاتها، ولها كذلك إجراءاتها التطبيقية.
6ـ يمكن لنا وصف العلاقة الداخلية للسياق بوصفها جانباً من مزاوجة بين الموضوع وحواليته.
هوامش:
(1)ـ ينظر سعيد حسن بحيري، علم لغة النص، المفاهيم والاتجاهات، ص 125 مكتبة لبنان، 1997.
(2)- Voir, Rastier François: Le problème épistémologique du contexte et le statut de l’interprétation dans les sciences du langage. Revue: Langages nْ 129 mars 1998 Paris, p98.
(3)- Ibid, p98.
(4)- Ibid, p98.
(5)- Vandendorpe C: Contextes, comprehension et litterarité Paris 1991, p10.
(6)- Rastier François: Op. cit, p98.
(7)ـ الدوغماتية: (Dogmatisme ) اتجاه يذهب إلى إثبات قيمة العقل وقدرته على المعرفة، وإمكان الوصول إلى اليقين، وقد سارت هذه النزعة في فلسفة العقليين إبان القرنين السابع والثامن عشر، ونحا نحوها التجريبيون الذين أكدوا إمكان المعرفة عن طريق التجربة. (ينظر القاموس الفلسفي، مجمع اللغة العربية القاهرة 1983).
(8)- Rastier: Op. cit, p100.
(9)- Ibid, p101.
(10)- Ibid.
(11)- Piotrowski, D: Dynamiques et structures en langue, c. n. r. s Paris 1997.
(12)- Rastier François: Op. cit, p101.
(13)- Todorov, T: Recherches sémantique. Langages, a, Paris, p 19. Larousse.
(14)- Voir, Rastier, Op. cit, p104.
(15)- A. Martinet: Elément de linguistique générale p131.
(16)- Adam. J. M: Textes et types de texts Nathan Paris, 1992, p 14.
(17)- Auroux S: La philosophie du langage Paris puf 1996 p194.
(18)- Rastier François; Op. cit, p106.