الفضيلة في الرواية الجزائرية
بقلم يوسف بن يزة
من موقع ضفاف الإبداع
رغم قلتها فقد لمعت في سماء الرواية الجزائرية أقلام استطاعت أن تغزوا أسواق الكتاب العالمية وكتب لها أن تترجم إلى عدة لغات، فالرواية الجزائرية تكون قد قطعت شوطا هاما في مسيرة الرقي إلى مصاف الأعمال الخالدة بكل ما تحمله من تشخيص للواقع المعيش أو ما تحمله من رسائل إيديولوجية وكذلك من قيم فنية وجمالية.
فيما يأتي دراسة مصغرة لعنصرين طالما جعل منهما أكبر الروائيين العالميين محورا لأعمالهم وهما الجنس والعنف، وحتى لا أغوص في القاعدة التي المعتمدة من طرف أغلب الكتاب الروائيين الجزائريين وهي جعل هذين العنصرين ركيزة أو منطلقا لفكرة القصة أو الرواية فإنني أبحث عن مواضع العفة والفضيلة ومعاني الحب السامية في بعض هذه الأعمال، وستلاحظون معي بأنها قليلة أو نادرة، إلا انه ونظرا للعلاقة التي تربط هذين العنصرين فإنني آثرت أن تكون الغلبة لعنصر الفضيلة لأن العنف في الرواية الجزائرية لم يصل بعد إلى المرحلة التي يتمايز فيها عن باقي تصرفات الأبطال الذين يتقمصون شخصيات واقعية متسمة بالعنف وهي تمارس حياتها العادية وهذا مقتبس من الحياة اليومية للناس وقد اعتمدت على عدد من الأعمال الروائية لكتاب جزائريين مشهورين وآخرين مغمورين، منهم من له باع طويل في هذا الميدان ومنهم من هو في بداية الطريق,إلا أن الملاحظة الأولية التي يمكن إبداؤها هي أن معظم هؤلاء من جيل السبعينات والثمانينات ذلك لأنهم استطاعوا طبع أعمالهم بغض النظر عن قيمها الفنية.
كانت صورة رائعة تلك التي جسدها بطلا رواية الفضيلة التي ترجمها الكاتب الشهير "مصطفى لطفي المنفلوطي" حيث حلت الفضيلة في أسمى معانيها محل الدم في عروق أبطال هذه الرواية , فـ " بول" و " فرجيني" سما بالعواطف الإنسانية إلى مستويات من العفة والطهارة لا تشوبها شائبة, وقبل ذلك أبدعا في تقنين ولجم مختلف النوازع والشهوات التي تؤدي حتما إلى الهبوط من درجة العفة إلى درجة البهيمية, وكانت نهاية الرواية أروع ما فيها عندما شاءت الأقدار أن تغرق " فرجيني " عند تحطم المركب الذي كان يقلها ولأنها كانت حريصة على أن لا ينكشف جسدها فإن القدر تدخل ليحقق رغبتها عندما أسلمت الروح إلى بارئها فوجدت مدفونة في الرمل لا يظهر من جسدها العاري إلا رأسها.
كانت نهاية مؤلمة وصورة بديعة ترسم في خيال القارئ أكثر من انطباع عن سمو النفس الإنسانية لتصل في بعض الأحيان إلى مصاف الكائنات النورانية رغم ما ينازعها من نزوات شيطانية ورغبات كان قد أودعها الله فيها لغرض استمرار الحياة وليس لاستثمارها في تقويض المثل والقيم الحميدة التي تنم عن صفاء السريرة وأن العفة والطهارة هما الأصل. ولهذا كانت الأديان السماوية تدعو إلى التحلي بهاتين الصفتين.
الرواية الجزائرية كانت بعيدة كل البعد عن هذا التصوير الفني الرائع وأكثر من ذالك راح الكثير من الكتاب باختلاف مدارس تكوينهم يبحثون في الاتجاه المعاكس لكل ما يعبر عن القيم الإنسانية الرفيعة التي يتميز بها المجتمع الجزائري وربما يكون ذلك تأثرا بمختلف رواد الأدب الغربيين أو الشرقيين وخاصة أولئك الذين يكتبون باللغة الفرنسية حيث أصبحت روايات الجيب سلعة رائجة في وقت معين في السوق الجزائرية وهي تحمل من العادات والطقوس الغريبة عن مجتمعنا ما يلعب بعقول المراهقين من القراء الذين تحول بعضهم إلى كتاب فيما بعد مع بقاء تلك المراهقة الفكرية ملازمة لإنتاجهم.
هذا ما سنلمسه من خلال قراءة أولية غير متعمقة في بعض الروايات والمجموعات القصصية لكتاب جزائريين منهم المشهورين ومنهم المغمورين .
البداية برواية " طومبيزا " للكاتب الجزائري " رشيد ميموني " هو بن عائلة بسيطة استغل في مهنة التعليم وهذا ما يدعو للاستغراب. فالقراءة الأولية لرواية " طومبيزا " بغض النظر عن فكرتها العامة ورسالتها الإيديولوجية فإنها تحتوي على مواقف يخجل الإنسان من تحويلها من كلمات ومواقف إلى صور في مخيلته فما بالك إن كتب لها وتحولت إلى فيلم، فالكاتب اجتهد في وصف الأعضاء الجنسية لكل من الذكر والأنثى دون أن يكون لذلك أي هدف فني واضح قد يخدم فكرة النص من قريب أو بعيد أو يزيدها إيضاحا كأضعف الإيمان. هذا المعلم لم يضع في حسبانه بأن مؤلفه هذا قد يقع يوما ما بين يدي أحد تلامذته وسيقرؤها بكل ذلك الكم الهائل من الكلمات النابية والصور اللفظية الخليعة.. ولنا أن نتصور موقف هذا التلميذ من معلمه الذي طالما لقنه دروسا في الأخلاق وأكثر من ذلك يذهب بعيدا في الاستهتار بمختلف مظاهر الحشمة العفة بقوله " لا شيء يدعو إلى مأساة.. حمام وحيد كفيل بإزالة ألف اغتصاب متعاقب .. غشاء صغير تقوم عليه حضارة ".. أي إهانة يقدمها هذا الكاتب لحضارتنا العربية الإسلامية وأي شذوذ هذا الذي ينغمس فيه الكاتب بكل جوارحه؟ ثم أليست هذه دعوة صريحة لفاحشة الزنا أم أن المواضيع ندرت حتى إن كاتبنا لم يجد ما يكتبه غير هذا ؟.
قد يقول قائل بأن كاتب القصة أو الرواية وحتى القصيدة حر في استعمال أي لفظة أو تصوير أي موقف مهما كان لإيصال الفكرة إلى المتلقي وهذا لعمري قصور في ذهن الكاتب فهناك الآلاف من الإحالات اللغوية التي تؤدي هذه الوظيفة بطريقة غير مباشرة عند الاقتضاء.. ومعروف عند جمهور الكتاب أن شخصية بطل الرواية عادة ما تنهل من شخصية الكاتب نفسه وهذا أمر لا يقبل الجدال أبدا.
لست امتطي هنا صهوة أي تيار فكري ولا أدعو للإصلاح فلهذه الدعوة أنبياؤها، وإنما من أجل التفريق بين الهدفية و اللامعنى في كتاباتنا.. ولا جدوى من تلطيخ فكرة الحرية أو مفهومها بمثل تلك الترهات الكلامية والأجدر بها ـ أي الحرية ـ أن توظف في مواقف تخدم القضايا الإنسانية المطروحة في عالمنا المعاصر.. وشخصيا أرى أن الاعتماد على تلك الكلمات الساقطة في إيصال فكرة الرواية أو القصة حتى وان كانت من صميم الواقع يدخل ضمن اللامعنى والعبث الذين اكتسحا الكتابات الجزائرية واستثني من هذا الحكم كتابات الأديبتين " أحلام مستغانمي" و " فضيلة الفاروق" فللأولى خيال رهيب وتحكم أسطوري في هلامية الكلمات وللثانية قدرة فائقة في الاحتيال على المعاني .
كاتب آخر لا يخرج عما سردنا وهو "جيلالي خلاص" صاحب الحصص التلفزيونية الأدبية المعروفة وخاصة " أهل الكتاب " .
جيلالي خلاص وفي روايته " رائحة الكلب " بدا وكأنه يحاول الانتقام من وضع يكون قد تخلص منه حيث يذهب في أحد الفصول إلى حد الطعن في شرف النساء الفقيرات؟.. كل الفقيرات يتهمهن ببيع شرفهن بأبخس الأثمان ورغم انه يرى بأنهن يفعلن ذلك ليس رغبة في الفاحشة وإنما اضطررن تحت ضغط الظروف الاجتماعية المتردية وهذا ليس تجاوزا للحقيقة وانها أشياء تقع، لكن لم اللجوء الى استعمال لفظ التعميم ففي اللغة العربية ألفاظ "رقمية" ـ إن صح التعبير ـ لا تقبل أكثر من معنى واحد. الكاتب ذاته يصور في مكان آخر من جسد النص امرأة فقيرة اضطرتها الظروف بعد وفاة زوجها إلى العمل كمنظفة في بيت شيخ البلدية، هذا الخير يقوم باستغلالها جنسيا في حين تخونه زوجته الثرية مع فقراء آخرين تتوسم فيهم الفحولة. ، هذه المواقف نجد منها الكثير في الروايات العربية وحتى العالمية لكن تناول الكاتب لها يفتقد إلى الحس الفني وكأني به يريد أن يقول ذلك وفقط.. وفي كل الحالات فان التعامل بطريقة عشوائية مع الألفاظ يميع الفكرة ويجانب الحقيقة في اغلب الأحيان وما لفظة " زوجات الفقراء "إلا دليل على ذلك، والمعروف عن فقراء الجزائر بأنهم سكان المناطق الريفية وهم أكثر خلق الله حرصا على العفة والفضيلة في تعاملاتهم اليومية فمن أين للكاتب بهذه الأفكار المشوهة للحقيقة حتى وإن ورد ذلك في رواية قد تكون من صميم الخيال .
كاتب آخر لم يكتب لأعماله أن تنتشر كثيرا هو " اسماعيل غموقات " . في روايته " الأجساد المحمومة " اعتمد لغة الحوار في أغلب فصولها وهو ما جعله يبتعد عن الوصف الذي يمر دونما شك عبر مكونات الجسد بالنظر إلى العنوان الملتهب الذي وضعه لروايته والذي يحيل ذهن القارئ منذ الوهلة الأولى إلى تصور طبيعة الرواية وحيثياتها، إلا أن الملفت للانتباه هو عدم تطابق عنوان الرواية مع مضمونها فعبارة " الأجساد المحمومة تنبئ عن جو مهووس بالجنس والانغماس في الرذيلة وهذا ما لم نجده في المضمون بل بالعكس هناك مواقف استبد بها الشرف والعفة في حين كان بإمكانه أن يهبط بالمستوى الأخلاقي فيما كتب إلى القعر، وهكذا جعل من الحب لغة تتبادلها القلوب عبر إشارات لاسلكية و ليس لغة الأجساد المحمومة التي توحي بجنوح النفس الإنسانية إلى الشذوذ كلما وجدت إلى ذلك سبيلا .
أما الكاتب الصحفي " أحميدة العياشي " وهو من الكتاب الذين اشتهروا حديثا لاسيما في الكتابات الصحفية المتمردة. فهو أيضا ينحو منحى سابقيه في التجني على نبل الفكرة وهدفيتها، ففي روايته " ذاكرة الجنون والانتحار" حاول أن يبحث عن الإثارة بكل الطرق والوسائل تماما مثلما يفعل في كتاباته الصحفية، أما عن الرواية المذكورة فهي كوكتيل من العبارات المثيرة لكل ما يمكن إثارته وقد وصم بها الزمان والمكان حتى إن قارئ هذه الرواية التي جرت أحداثها في إحدى قرى الغرب الجزائري يخيل إليه وكأنه يشاهد فيلما إباحيا فإضافة إلى انعدام ابسط أدوات الكتابة الفنية كالانزياح اللغوي وتراكب الأحداث فضلا عن ألغاز العقدة والحبكة الفنية فقد استبد الوصف الذي طوق المكان والزمان ليجعل منهما أمكنة وأزمنة يجول بهما بطل الرواية بحثا عن اللذة والانتقام وبحثا عن الحب المفقود، أكثر من ذلك يسمح لنفسه ولقلمه بان يسب مقدسات المسلمين استهتارا بها أو بحثا عن الإثارة كالعادة وإلا كيف يورد على لسان أحد أبطال روايته الذي يخبر زوجته بأنه يريد زيارة مكة المكرمة و المدينة المنورة حاجا وهو في قمة النشوة الناتجة عن الجماع؟
كاتب آخر نال قدرا من الشهرة خاصة بعد وفاته إنه القاص " عمار بلحسن، ففي مجموعته " حرائق البحر" لا يخرج عما أوردنا وفي غمرة قصص الحب التي يوردها والتي يكون هو البطل فيها في أغلب الأحيان ينحو منحى الآخرين وهو ما يسميه بممارسة الحب الذي لا يتم إلا بالتقاء الأجساد ، هذه العقدة التي ضلت تلازم قصص عمار بلحسن جعلتها وكأنها غاية في حد ذاتها و بالمقابل استبعد كل مظهر للعفة التي تكون عادة مرافقة لتلك العلاقة المقدسة أكثر من ذلك فهو لا يعترف إطلاقا بالمسلك الشرعي لممارسة الحب ففي حديثه عن الزواج يتجاوز كل الحدود و الحواجز الأخلاقية ويعطي لنفسه الحق في وصفه بلفظ مبتذل وهو " الدعارة الرسمية " . وقد أورد ذلك على لسان احد أبطاله .
" عبد المالك مرتاض" كاتب آخر وقعت بين أيدينا روايته " الخنازير" وبقدر ما كانت مفعمة بفلسفة أيديولوجية غير واضحة فهي نابعة بحق من المجتمع الجزائري ، حيث تفيض في وصف الجزئيات التي تشغل يوميات أبطاله وبدا في كل مرة وكأنه ينافح عن قيم معينة لم يكشف عنها صراحة لكنها واضحة وتفهم من سياق الأحداث التي كانت في معظمها ذات خلفيات سياسية تتماشى مع مراحل تكوينه الفكري وهذا لم يمنعه من أن يتعرض لبعض خوالج النفس الإنسانية وما ينتج عنها من حركات وسكنات قد تخرج عن نطاق المألوف، لكن لم يصل به الأمر إلى حد الإبحار في الوصف المستفيض للجسد.
كاتب آخر له حظ من الشهرة هو " رشيد بوجدرة" الذي كتب باللغة الفرنسية، ففي روايته " الحلزون العنيد " انتهج منهج بن المقفع في كليلة ودمنة عندما استبدل شخصيات روايته بالجرذان وأعطاها سلوكات بني البشر وراح يصف نمط حياتها وهو يرمي في الحقيقة إلى تحديد لحظات تحول الإنسان في علاقته بآلة الدولة وأثر هذه التحولات في تشويه كيان الإنسان.1
وربما هذا ما جعله يبتعد عن العلاقات الإنسانية كالحب والكره وما يؤدي إليه من تثبيت أو إلغاء بعض القيم الإنسانية.
وربما هذا ما جعله يبتعد عن العلاقات الإنسانية كالحب والكره وما يؤدي إليه من تثبيت أو إلغاء بعض القيم الإنسانية.
" عبد الحميد بن هدوقة" أحد عمالقة الرواية الجزائرية يمثل بحق النموذج الأمثل للكاتب الملتزم بالموضوعية في وصف واقعه و المتمسك بالحد الأدنى من الخجل الصحي في وصف حركات وسكنات أبطاله، ففي كل من " بان الصبح" " غدا يوم جديد" " نهاية الأمس " يذهب الكاتب بعيدا في وصف أعماق المجتمع الجزائري بعدد من القصص التي قد تكون واقعية تبين علاقة الإنسان بأخيه الإنسان أو علاقته بالطبيعة وكذلك علاقته بالدولة، فالعلاقات الإنسانية في كتابات "عبد الحميد بن هدوقة" قوية جدا وتتحلى بعواطف متداخلة تجعل من محيط الأبطال مسرحا لتناطح عدة أفكار وعدة نماذج من الحياة مما يكسبه نوعا خاصا من الإثارة بالإضافة إلى غوصه في مختلف جوانب الحياة خاصة تلك السائدة في الريف الجزائري أين تجري معظم أحداث رواياته ، فعلاقات الأفراد في العائلة متماسكة وعلاقات الأفراد ف " الدشرة " " البلدة " قوية وسمة هؤلاء التعاون والتكاتف وهو تجسيد واضح للأفكار الاشتراكية المنتشرة بقوة في فترة السبعينيات من القرن الماضي، وقد ركز الكاتب على العلاقات التي تنشأ بين القرى دون أن يهمل لتلك التي تنموا بين الأفراد و التي تكون عادة في تبادل للأحداث من حيث السبب والطبيعة بمعنى أن علاقة امرأة من قبيلة معينة برجل من قبيلة أخرى هي علاقة حتمية بين القبيلتين قد تؤدي إلى تحالفهما كما قد تؤدي إلى تقاتلهما، ثم وفي متابعيه لهذه العلاقة التي عادة ما تكون علاقة حب أسطوري تبلغ فيها التضحية مداها الأكبر.
ولم يسمح الكاتب لنفسه بابتذال الكلمات البذيئة ويكثر من المواقف المخجلة حيث يكتفي بالإشارة إليها إذا كان لا بد من ذلك، هنا يجد القارئ المتذوق شيئا من ذلك الإحساس الرائع الذي يرافقه وهو يقرأ رواية الفضيلة ثم إن الراحل عبد الحميد بن هدوقة في رواية " ريح الجنوب" ـ التي حولت فيما بعد إلى فيلم سينمائي ـ يصور قصة حب رائعة بين ذلك الفتى الذي يمتهن الرعي وفتاة قروية لها حظ من التعليم وتدرس في عاصمة البلاد، ورغم الفارق الاجتماعي بينهما فقد لعبت الشهامة والعفة والطهر دورها في تسيير تلك العلاقة المحرمة مبدئيا في أوساط مجتمع محافظ حد التخمة وهكذا يكون الكاتب قد سما بأبطال روايته إلى درجة متقدمة من الفضيلة تحاكي تلك التي ذكرناها عن كل من "بول" و " فرجيني" في رواية الفضيلة.
عكس بن هدوقة يذهب الكاتب الجزائري الذائع الصيت " الطاهر وطار" في بواكير أعماله إلى ابعد الحدود في وصف الأحداث السياسية وتحليل العلاقات بين الأفراد وأشير هنا إلى أن أعمال هذا الكاتب اتخذت منحى متصاعدا من حيث نضج الفكرة حيث تميزت أعماله الأولى بالانغماس في أجواء الرذيلة وامتهان مختلف القيم الإنسانية السامية " ففي روايته " عرس بغل" التي جرت أحداثها في ماخور يرتقي الكاتب درجات الوصف كلها ليشّرح بالتفصيل أحط أنواع الممارسات التي قد تحدث بين شخصين، أكثر من ذلك يتفنن في تصوير المواقف المخلة بالحياء ليطعمها ببعض مشاهد العنف مما يجعلها كوكتالا من العبثية حيث يفقد الإنسان كل قيمه الاجتماعية و يتحول إلى مجرد آلة تشتغل بأوامر الغريزة, هذا التناول المهين و المفجع لقيمة الإنسان يجعلنا نطرح تساؤلا بريئا عن الهدف الذي يتوخاه الكاتب من كل ذلك الوصف وفي النهاية نجد بعض الإجابة حيث بقيت الأحداث معلقة وكأن للرواية جزء ثان فلا لحظة الانجلاء انجلت ولا العقدة حلت مع الإشارة إلى أن السياق العام للرواية يشير كالعادة إلى أحداث سياسية لها علاقة بالدولة وشكلها وهو شان كل الكتابات المضمخة بالايدولوجيا. إلا أن الطاهر وطار وفي روايته " اللّاز" يعود من بعيد ويبتعد عن أسلوب الإثارة ويكتب إحدى ملاحم الثورة التحريرية الجزائرية الكبرى وكذلك الأمر بالنسبة لـ" الشهداء يعودون هذا الأسبوع " وكذا " الشمعة و الدهاليز" وأخيرا "الولي الطاهر يعود إلى مقامه الزكي" وهذا ما نلاحظه في كتابات " كاتب ياسين " وعمر بن قينة" أيضا.
أما بالنسبة للوجوه النسائية فإننا نورد مثلا الكاتبة " زهور ونيسي" ففي روايتها " على الشاطئ الآخر " تغيب كلية أي إشارات إلى الجنس أو هتك ستار العفة وربما يعود ذلك لأحداث الرواية التاريخية أو لطبيعة المرأة ذاتها، وأعود مرة أخرى إلى كتابات "أحلام مستغانمي" التي تنضح بالمعاني الخفية لنزوات النفس الإنسانية حتى أنها في روايتها " فوضي الحواس" خلقت أسلوبا جديدا في التعاطي مع مثل هذه المواضيع ولكن بحس فني عال قل ما نجده عند آخرين.
ومهما يكن فإن الرواية الجزائرية بتعدد مواضيعها عانت في القديم ولا تزال تعاني من فقر الفكرة حتى إن بعض الروايات تشبه سيناريوهات الأفلام و الحق أن الفرق بين هذه وتلك واضح، فليس ما يشاهد أو يسمع مثل ما يقرأ، وعلى عكس الرواية المشرقية قطعت الرواية الجزائرية والمغاربية عموما أشواطا في تجاوز الفضيلة وفسحت المجال لدغدغة الشهوات والسبب قد يعود إلى تأثر الكتاب في هذه المنطقة بالآداب الغربية عطفا على التقارب الجغرافي والاحتكاك المتواصل بمنتجات الحضارة الغربية.
إن الهدف من هذه الدراسة ليس التقليل من قيمة أي عمل فني أو أي كاتب سيما وأن بعض هؤلاء ارتقى إلى مرتبة العالمية ومنهم من ترجمت أعماله إلى عدة لغات وإنما هي ملاحظات يمكن لأي قارئ عادي أن يبديها، خاصة وان الموضوع له من الحساسية ما يجعله قد يمتد إلى شخصية الكاتب ذاته ، كما أن الأحكام الواردة هنا تخص فقط العينة المدروسة ولا يمكن بأي حال إسقاطها على كل الأعمال الروائية الجزائرية .
-------------
* كاتب ومبدع جزائري ...
* كاتب ومبدع جزائري ...