نقد الشعر


مجلة الموقف الأدبي - مجلة أدبية شهرية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق - العدد 307 تشرين الثاني 1996
القصيدة الأجَدُّ: من التخلّي عن التقفية، إلى الإيغال في التَّعمية
 أد.عبد الملك مرتاض
لا نريد أن يفهم القارئُ من هذا العنوان على أنه إصدار حُكْم قيمةٍ على القصيدة الأجَد، كما يطلق عليها الدكتور عبد العزيز المقالح، وهو حكمٌ قد يستخلص، لأول وهلة، من هذه الجملة المثيرة التي اتخذناها عنواناً لهذه المقالة التي أردنا بها إلى سهولة السيرورة؛ فهي إذن وصْفٌ لا حُكْم. ذلك بأن "التخلي عن التقفية" لا يعني بالضرورة حَيْدُودَةً عن قيمة جماليَّة لا تُعَوّض؛ كما لا يعني، أيضاً، أنَّ كل شِعرٍ غير مقفى هو فاقدٌ، حتماً، للشعرية: وذلك بناءً على ما كان ورد في تعريفات الشعر للنقاد القدماء أمثال المرزوقي (مقدمة شرح حماسة أبي تمام)، وابن طباطبا (عيار الشعر) وسواهم من كبار النقاد العرب القدامى الذين كانوا يتخذون التقفية –مثلها مثل التفعيلة- أحدَ العناصر التي إذا لم تشتمل عليه القصيدة فقدتْ، بالضرورة قصيديتها، كما أن "الإيغال في التعمية" لا نريد به إلى التهجين والتقبيح، بمقدار ما نريد به إلى الوصف والتغرير. فمصطلح "التعمية" يعني، لدينا، في الكتابة الجديدة، (القصيدة الأجد –الرواية الجديدة- الرواية الأجد...الخ.) تعلقها بالخروج عن المألوف، وإيغالها في الاعتياص على القارئ، وعدمَ انقيادها إليه لأول وهلة بسهولة وإنما تعتاص عليه: فتتأبّى، وتتدلل، وتتمنع، وتراوغ، وتماكر، وتدِقّ فلا يهتدي السبيل إلى ما فيها من عناصر الجمال الفني إلا بعد إعمال فكره، وإجهاد خياله، وإعنات قريحته... حتى يماثل الكاتب نفسه الذي كان عانى في الكتابة، واجتهد في التجريب، ولم يأل جهداً في التجويد؛ فلم يَرض بأن يُقدم صورة كتابته على النحو الجاهز، والشكل الدارج، فكما أن الكتابة شكل من الإيحاء، وجنس من التكثيف.. فإن القراءة مُسايرةٌ لهذه الكتابة، والتناص مع نصِّها؛ بِمَلءِ الفراغ، وقراءة الغائب، وتَمَثِلُّ ما وراء ظِلال دلالة الكلمات: من خلال النص الماثِل الذي هو شبكةٌ من الثيمات المركبة التي يحلُّ حاضِرُها على غائبها، وراهِنُها على غابِرِها. فليس النصُّ، في النهاية، إلا شبكةَ العلاقاتِ القائمة على تبادلِ السماتِ البسيطةِ: المواقعَ، والتي تُفْضِي إلى نشوءِ مُثولِ السماتِ المركَّبَة التي تُفْضِي إلى مثول الملفوظات أو المنطوقات التي هي، في حقيقتها، "سِمْيُوزَةٌ" أو "مُوَاسِمٌ" (بضَمِّ الميم الأولى- وهو من ترجمتنا الشخصية لمصطلح "سميوزة" التي أنشأته جوليا كريستيفا وبَلْوَرَهُ روبرتو إِيكو...) ينشأ عن الثيمَائِيَّةِ التي هي إجراءٌ متحِكمٌ في هذه العناصر على غاية من الصرامة.
ذلك، وقد أهداني الشاعر السوري إبراهيم الجرادي نسخة من ديوانه "عويل الحواس" ("الرائي" 1992-112 صفحة)، فسعدت بقراءة الديوان سعادة عارمة لأنني وجَدْتُنِي أمام تشكيل شعري متفرد، وأمام تجريب ينهض على المبدأ الذي جعلناه عنواناً لهذه المقالة: أي على رفض التقفية، والإقبال إقبال الظامئ- على الماء النمير- على الفَزَعِ إلى جملة من التِقنيات، وإلى شبكة من المظاهر الشكلية التي تُعَمي على القارئ وتدفعه على القلقِ، وتَضْطرّه إلى التفكير. كتابة تبحث عن التجريب، وتشْرَئِب إلى الجديد، وتتطلّع إلى عالَمٍ عُذريَّ، أبيض كالطفولة، ولطيف كالنسيم، وسحريِّ كالحبِّ، وجميل كالسَّلام: لم يَطْمِثْهُ خيال، ولم تَقْتَضضهُ لغة... فنحن أمام شبكة من التقنيات الجديدة للكتابة الشعرية تخالف كلَّ ما أَلِفْنا قراءته من شعر الحداثة، كتابة تكاد تكون متفرّدة، وتنهض على تقنيات التشكيل اللغويَّ (بناء اللغة- ولا أريد إلى بنية اللغة)، والحيزي (الفضائي) (كيفية توزيع النص الشعري على القرطاس...) ويمتد هذا التشكيل على مستويات مختلفة، منها:
أولاً: المستوى البنائي للغة:
وفي هذا المستوى، نلاحظ أنَّ الشاعر يعذب اللغة، يزعجها، يؤذيها، يلذَعُها، يلسَعها، يخرجُها عما ألِفَتْ أن تمثل فيه، وتسير عليه... لا يَدَعُها تَسْتَقِرُّ في مستَقَرّها من الجملة التي أَلِفَت أن تَقْبَعَ فيها فلا ترى أحداً يزعجها... أجل، كأنَّ الشاعر موكَل بتعذيبها، ومضايقتها بحيث لا يَترِكُ لها لحظةً واحدة لتتنفَّسَ، ولتستجم مع المضايقة، ولتنطلق في فِقْرة شعريَّةٍ أُخْراةٍ.. إنه يُعْنتها فيستخرج منها أقصى طاقاتها التعبيريَّة والدلاليَّة والصوتية والإيحائية، وربما، في بعض الأطوار التقريرية.
إنك لتقرأ لغة هذه المجموعة من القصائد –وخصوصاً "متاريس مدن الخبز اليابس" و "أخطأ الشاعر في التشكيل؟" –فتجدك أمام ملحمةٍ من الاستعمالات اللغويَّة الجديدة، بل أمام ثورة عارمة على المألوف، وتمرُّد عنود على المعهود لدى القارئ العربي- العادي خصوصاً.
ورُبَّما يكون من الأليق أن نتساءل الآن، على هامش هذه الكتابة الشعرية الجديدة: أَيُّهُما أمثلُ لدى الشاعر المعاصر: أَإِيغالهُ في الإتباعية، وإذعانه لقانون التقليد الشعريِّ السائِد منذ ستة عشر قرْناً من حياة الشعر العربي، أم تطلُّعه العارمُ إلى الاجتهاد في التجريب، وإلى المحاولة في التجديد؟
لقد ظل هذا السؤال قائماً زهاء اثني عشر قرناً، في النقد العربي، وذلك منذ أن أجاب أبو تمام مُبَكّتاً مُفْحِماً: "ولِمَ لا تفهَمُ ما يقال؟" عيَّن سأله متحديَّاً مُسْتَعْلِياً، وقل: مستغرباً مُسْتَخْذياً: "لِمَ لا تقول ما يُفْهَمُ؟"....
أَيْ هل يقرأ قارئٌ الشعر من أجل أن يفهم شيئاً معيَّناً، من أجل أن يعمّق معرفته، ويوسِّعَ ثقافته –كما يقرأ في كتاب علميّ لكي يفهم نظرية، أو يُلمَّ بفكرة.. –أم يقرأ من أجل صقل ذوقه، وإمتاع روحه، وإيناس قلبه؟ أم أنه يقرأ الشعر من أجل أن يَتناصَّ، ويتشرَّبَ، ويتساءل، ويملأ الفراغ الذي لم يتمكن النص المقروءُ من مَلْئِهِ، ويبحثَ، مع الشاعر، عن النص الغائب، وعن اللاَّ معقول، وعن اللاّ مُفَكَّرِ فيه أثناء الكتابة، وعمّا تحمله اللغة في ثنايا ظفائرها من عوالم، وعمّا لا يُدْرَكُ من ألفاظها، وإنما يُدْرَك من عَبَقِ معانيها القابعة في زوايا الألفاظ، ومجاهل الكلام؟ أي هل يقرأ قارئ الشعر وهو لا يفكّر، ولا يتعب، ولا يبحث ولا يتساءل، ولا يتوقف للتساؤل، ولا يلتفت إلى ظلال اللفظ الشعري، ولا إلى سطح النسج اللغوي، ولا يتعثرّ، ولا يَظْلَعَ، ولا يُبْدَعُ به، ولا نَنْقَبُ قريحتهُ وهو يتابع مسار الأسطار الشعريَّة، وهي تَمْثُلُ متتاليةً في الترتيب، ولكنها غير متشابهةٍ في التوزيع...؟ أم يقرأ الشعر وهو مستجمع انتباهَه، ومستحضرٌ وَهْمَه، ومتأهّب لعمل أدبيّ، لإنجاز فعل أدبيّ، يشبه الكتابة المقروءةَ نفسَها؟ أي هل، إذن، تختلف الكتابة عن القراءة؟ أي هل تختلف القراءة عن الكتابة، حقاً، كما هو متصوَّرٌ في النظرية النقدية التقليدية؟ وهل مكتوب على الكاتب حقّاً أن يكتب ولا يقرأ، وعلى القارئ أن يقرأ ولا يكتب؟ أولاً يمكن عَدُّ الكتابة قراءة، والقراءة كتابة، وبالتالي: عد الكاتب قارِئاً، والقارئ كاتِباً –بالمفهوم السلبي كما يعبر الأطباء عن حال اللاّ مُدَخن حين يجاور ويخالط المدخّن- وهما يعالجان النصّ في حالَي البَثِّ والاستقبال؟.. إلى مُساءلاتٍ أخراةٍ لا حصْرَ لها يمكن طرحها حول هذه المسألة اللطيفة...
إنَّ التقليديّين لا يبرحون يلهثون وراء مجاهل الماضي فيها عما لا يوجد، عما لم يوجد، ربما قط، عمّا لم يعرف حق المعرفة، عما رفضه، في بعض الأطوار، الأجداد أنفسُهم لأنفسهم... أو قل إنهم لم يبرحوا يبحثون عما وُجدَ ثم انعدم، أو عما انعدم لم يوجد.. وحجتهم في ذلك المحافظة على الذوق الأدبي العامّ..
وكأن الذوق العامّ يتجسّد في الكتابة الأدبيّة وحدها، دون سَواها من مظاهر الحياة الأخرى الكثيرة. ولو صدقوا أنفسهم، وصدَقوا سواهم أيضاً، لكانوا قالوا: بل إنهم عاجزون عن ملاحقة هذه الغول التي تسمّى "الحداثة"، والتي نزهبهم بشكلها، وما يحيط بها من هالات المعرفة، وأنهم قاصرون عن تمثُّل جدَّتها البراقة، ونُضْرَتِها الخلاقة، وإجراءاتها المتطورة القادِرَة على التحكم في الظواهر الأدبيَّة وتفسيرها طوراً، وتأويلها طوراً آخر بحيث، كما يرى بيرس، إن كلَّ تعبير يمكن أن يؤول بتعبير آخر، إلى ما لا نهاية مما يترك قراءة النص مفتوحة إلى يوم القيامة- لكانوا صادقين.
لقد قرأنا منذ أيام لشاعر عربي، تصريحاً نشر في إحدى المجلاَّت المصريّة، يهاجم فيه الحداثة بشِقّيْها الإبداعي والابتداعيّ معاً؛ ويتهم شعراء الحداثة بالجهل، والرعونة، والعجمة، وبما لا يقال... كما يتهم النقاد الحداثيين أنفسهم بما معناه: إنَّ الغشاش لا يتعامل إلاَّ مع الغشاش.
وإنَّا لا ندري ما سببُ اصطناع مثل هذا المصطلح المنصرف إلى أخلاقيات التجارة في مسألة فنية ونقدية وحضارية جميعاً؟ كما لا ندري أين يكمنُ غش هؤلاء؟ وفيم يتجسّد غِشُّ أولئك؟ وهل إذا كتب كاتب، والكتابة حرية في تصور رولان بارت، وحرية وواجب في تصوّرنا نحن، يعيب عليه آخرُ ممارسته لحق من حقوق التفكير، ووجهِ من وجوه الواجب، وشكل من أشكال الوجود نفسه: فيسلبه حريته، ويستعبده بأن يُوجِبَ عليه شيئاً كان لدى الأجداد ثم مضى معهم ولا يعود أبداً، لأن التاريخ يمضي نحو الأمام ولا يؤوب القهقْرى؟.
إننا لم تستحسن ذلك التصريح لعلل منها:
أولاً: متى الشعراء نقاداً- إلاّ الجامعيّين، وهم قليل ولم، إذن، الخوض فيما لا يُعْرَف والخبط في الظلام والناس نيام؟ ولم تحميل النفس ما لا تطيق، وإعنات الذهن بما لا يجوز؟ وهل يمكن لشاعر ظل يبحث عن القافية، ويلهث وراء الإيقاع، ويزهو لدى الوقوع على لفظ جميل: أن يستحيل بقدرة قادر، وفي أرذل العمر، وبين عشية وضحاها، إلى ناقد ينتقد الحداثة، وإلى منظر ينظر للشعر؟ وهلا استحى أمثال هؤلاء الناس فعالجوا من الأمر ما يحسنون، واتْركوا لسوائِهِمْ ما لا يُحسنون؟ أم لم يتمثّلوا الحكمة العربيّة القديمة: رحِم الله أمْرَأً عرف قدر نفسه؟
ثانياً: إنَّ المعاصرة حجاب، كما كان يقول علماء النحو والحديث معاً. ولقد ينشأ عن هذه المقولة: اتّحاد المهنة حجاب! فالشاعر التقليدي مظنون في انتقاده الشاعر المجدّد، كما أن الشاعر المجدّد نفسه يجب أن يكون مظنوناً في انتقاده الشاعر التقليدي، إلاّ إذا كان مشهوداً له بالمعرفة النقدية، وهذا قليل. فللشعراء أن يقولوا الشعر، وللنقاد أن يكتبوا عن شعرهم نقداً: "وبَيْنَهما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ". أم لمَّا يَأنِ أَنْ نُعْطِي، في الثقافة العربية المعاصرة، ما لله لله، وما لقيصر لقيصر؟ أمَّ ما لِهَذا القَيْصِر يتنَمّر، ويتجبَّر، ويتبختر، ويتطوّس، ويتنوّس، فيهاجم مجالاً لا ينبغي له أن يعرف عنه إلا قليلاً؟...
أم هل يستحيل تنميق الكلام، وتكرار الألفاظ إلى موقفٍ نقديَّ بكلَّ ما يحمل مفهوم النقد من جديّة وصرامة ودقة وعلميّة؟ أم هل لا يعرف أمثال هؤلاء أن الشعر الأجَدّ يقرأ ذهنياً لا إيقاعياً، بينما يتلقى الشعر التقليدي على أساس ما فيه من رتابة الإيقاع المملَّ الذي إن طال به نفَس القصيدة فقد كثيراً من جمالية الشعر التي تنشد في التكثيف، والإيحاء والتعمِيَة، والتنقل؟ إن جمالية القصيدة في تقنيات كتابتها، وفي عمق صورها، وفي عملها العجيب باللغة. وبعبارة أُخْرَاةٍ، تكمن جمالية القصيدة العمودية –وما يضطرب في مضطربها- في إيقاعها الطبليّ الرتيب وفي عُرْيها... بينما جمالية الشعر الأجدّ تكْمنُ في كثير من المظاهر في جمال القبح (مذهب بودلير)، وفي النثرية الشعرية، وفي الإيقاع المتحرّر الذي لا يكاد يبين، وفي اللغة الإحصائية، وفي التصوير البديع، وفي عجائبيّة الخيال...
ونعود إلى تجريب الكتابة لدى إبراهيم الجرادي.
إننا، إذن، وعلى مستوى بناء اللغة، لاحظْنا، فعلاً شكلاً جديداً من الكتابة يقوم على اللعب باللغة لعباً ذكياً بحيث نستطيع أن نستنتج جملة من القراءات بناء على إعادة تركيب اللغة الشعرية بعد تقويضها (تفكيكها، كما يقال)؛ فهي لغة تعطيك في كل مرة تلم بها، قراءة جديدة انطلاقاً من التشكيل اللغوي الذي تمارسه بما أنت قارئ؛ فتوزيع ألفاظ اللغة في الأسطار، وعلى امتداد نَصّ القصيدة بِجَذَا مِيِرهِ، ينهض على تقنيات مفتوحة ظاهِراً، ومقننة مرتّبة مقدّرة في حقيقة الأمر.
فالتجريب لدى الجرادي، لا يقوم على مجرّد الارتجال، فيما يعود إلى نسج اللغة خصوصاً، وإنما ينهض على تمييز دقيق، مركب بمقدار، ومقدّرٍ، بشيء من الحساب.
هذا على مستوى النسج اللغوي. وأما على مستوى الأفكار، فكأن الناصّ يذرها تقع تحت سلطان التلقائية، والعفوية، وشروط اللحظة الماثلة، واللقطة الخيالية السائحة... وكأني بهذا الصنيع يشبه الكتابة الدادوية والسرياليّة التي تنهض على شيء مما ذكرناه بحيث يمكن للشاعر أن يتقبل من قريحته كل ما تجود به عليه، فلا يعمد إلى التمحيص والتنقيح.. إنه نزوع إلى الاعتراف من عطاء الطبيعة السمحة... لكن لِنُوَكّدْ ما كنا قررناه من أن هذا يمثل على مستوى الأفكار المعالجة، لا على مستوى اللغةِ المعالَجَةِ بها هذه الأفكارُ. ذلك بأن النصوص –النسوج الشعرية- التي بين يدينا في هذا الديوان، وفيما نرى نحن على الأقل، مخدومة، محبوكة/ محكمة التركيب.
وعلى الرغم من أنها قد تبدو للقارئ العاديّ أنها مرتجلة، وتلقائية، وابنة لحظتها، فإنّ فيها صناعة عجيبة، وعملاً متقناً إلى حدٍ كبير، مما يدل على أنها خضعت لطول تأمّل، وسابق تفكّر، ولتنقيح، ولتغيير لفظ بلفظ آخر، وسطر شعري بسطر شعريّ جديد... وكانت الغاية من وراء كل ذلك تحريرَ اللغةِ الشعرية من العبوديَّة المقِتَةِ التي ظلت ترزح تحت نيّرها ستةَ عشرَ قرْناً من الدهر: لغةٍ طليقة في أصلها تقيَّد بالقوافي، وتُكَبّلُ برتابة الإيقاع. وفي تحرير اللغة الشعرية تحريرٌ للخيالِ من الأَسْرِ، وتخليص للقريحة الشعرية من القيْد، وتمكين لها في الانتشار الطليق، والمُثول في كل طريق.
فكأن النص الشعري، من خلال النسوج المتفرّدة، كان يراد له أن يحمل في طيّاته نظريةً تجديديةً غيرَ مُعلنةٍ فيه...
ثانياً: المستوى الحيزي (الفضائي):
نلاحظ أن الجرادي يدّبج الأسطار الشعرية بطريقة قل أن رأينا لها مثيلاً فيما وقع لنا من شعر الحداثة وذلك على الرغم من أن الشعراء العرب المعاصرين، ممّن يَنْحُونَ في الكتابة الشعريَّة منحىً جديداً، تراهم يتفنَّنون في طريقة كتابة هذه الأسطار (حتى بالقياس إلى أولئك الذين يكتبون القصيدة العمودية مثل سليمان العيسى الذي تراه يجدّد في طريقة كتابة أبَاييتِ قصيدته على نحو يجعلها تتوزع توزّعاً حيزيّاً على الأسطار غير الذي كنا نَعْهدها به..) فكأن تجديد توزيع النص على القرطاس جزء من كتابة النصّ. في الذهن. وكأن الثورة على القديم يُلاَصُ لها أن تتجسد في كل المستويات، أو في معظمها على الأقل، فإذا أنت تَرْاها تمتد إلى المستوى التقني لتقييد النص الشعري (كيفية توزيع نصّ القصيدة على امتداد الأسطار)، وإلى المستوى الفني (كيفيّة توزيع السِمّات اللغوية وتقدير انتشارها عبر الأسطار)، وإلى المستوى الدلالي (الاجتهاد في تجديد الدلالة للفظ الشعريّ وشحنه بأحمال دلالية لا عهد له بها من قبل)، وهلم جرّا.
من أجل ذلك تلاحظ –وأنت تقرأ إبراهيم الجرادي في معظم قصائد هذا الديوان- (وبما فيها قصيدة أخطأ الشاعر في التشكيل؟) أنّ الناصَّ يوزّع نصَّه على مستويات مختلفة من الأحياز، وعلى أشكال متباينةً من الأَفْضِيَة: مثل أنّ هذا السطر الشعريّ يجتزئ بلفظ واحدٍ شعريّ، والذي يليه يمتدّ إلى لفظين اثنين، والذي يأتي بعده يمتدّ إلى ثلاثة. بيد أنَّ هذا الشأن الذي ذكرناه اغتدى مألوفاً في توزيع الحيز الشعري على مساحات الصفحات لدى معظم شعراء الحداثة.. وإنما الذي قد يتفرَّد به الجرادي أنه، ربما، -وهذا في أطوار كثيرة- استعاض عن اللفظ الشعري، أو عن الألفاظ/ عبر السطر بفراغ، أو بخط أفقي مستقيم، أو بمربع، أو بمستطيل، ويملَؤُه لفظ واحدٌ، أو لفظان اثنان، أو ثلاثة... وربما ألفيت السطر الواحد يشتمل على لفظ وعلى رقم، أو على رقم أولاً، ثم على لفظ آخراً.. فلقد اغتدى الرقم، لدى الجرادي، ذا دلالةٍٍ شعرية، ووظيفة تعبيرية في الكتابة الجديدة كما يصادفنا ذلك في هذا المقطع من القصيدة الآنفة الذكْر:
*وعشية الجنوح في ملاعب الغبطة(1) تنحدر الانتهاكات إلى
العنق(2) لينفذ منها غبار الوطن(3) صراخاً(4)
حُمَّى(5) وادّعاءات(6)
علي، إذن، أن أحتج(7) أو أعلن موتي وموتكم(8)
لا يكتمل جنوني إلاّ بكم(9) ولا يكتمل نشيجكم إلاَّ بي(10)
(إبراهيم الجرادي، عويل الحواس، ص 80)
ومن الواضح أن هذه الأرقام تحمل دلالتين: دلالةً عبثية تتجسد في قلب الترتيب، وتأخير ما كان يجب أن يقدَّم، وتقديم ما كان يجب أن يؤخر؛ فهو ضرْب من الدّس على القارئ، والجنوح به نحو التنبّه، ودعوته إلى إعادة ترتيب أرقام النص؛ وكأن أصل نسج الكلام:
1-وعشية الجنوح في ملاعب الغبطة؛
2-تنحدر الانتهاكات إلى العنق؛
3-لينفُذَ منها غبار الوطن؛
4-صراخاً؛
5-حُمَّى؛
6-وادّعاءات. الخ.
فَدَسَّ الناص على متلقّيه ترتيب الأرقام.. وهو شأن نصادفه كثيراً في الكتابات الروائية الجديدة حيث إنَّ التسلسل الزمني لا يخضع، مثلاً، للتعاقب المألوف بين الناس (الماضي، فالحاضر، فالمستقبل (؛وهي السيرة التي تَسِمُ مظهر الكتابات الروائية التقليدية؛ بل إن الروائي الجديد يرفض هذه السيرة بتعقيد تسلسل الزمن، وإزعاج مساره، ومحاولة إعادة تركيبه ضد طبيعته؛ فإذا المستقبل قد يرد قبل الحاضر، والحاضر قبل الماضي، وربما الماضي بعد المستقبل. ومثل ذلك يقال في بناء الشخصيَّات، وفي بناء اللغة أيضاً...
والدلالة الأخراة تمثل في المستوى الزمني التي توحي به هذه الأرقام التي توقفت لدى اثني عشر؛ واثنا عشر عدد يحيلنا، مثلاً، على عدد شهور السنَّة. فكأن هذه الهموم التي يوحي النص بها، والتي تكابدها الشخصيات الشعرية، ممتدة على امتداد شهور السنة، وإذن على امتداد مدى الدَّهر الدَّهارير...
ويمكن تمثل توزيع النص الشعري على القرطاس، في القصيدة الآنفة الذكر، على هذا النحو:
1
بينما نجد هذا التوزيع يختلف اختلافاً، على نحو ما، في أكبر قصيدة بهذا الديوان وهي "متاريس مدن الخبز اليابس" حيث تتخذ لها جملةً من الأشكال الهندسية لدى التوزيع السطري، مثل:
ـــ      ـــــــــــــــــــــ
ـــ      ـــــــــــــــــــ
ومثل:
                  ـــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــــــــــ
ومثل:
ـــــــــــــــــ
                                         ـــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
ــــــ
وذلك في المتراس الأول. أما في المتراس الثاني فيتغيّر مستوى حيث لا يتخذ السيرة نفسها في الأشكال التي اجتهدنا في تجسيدها للقارئ. ولكن، يبدو أنه لا يوجد جديد مثير –على مستوى توزيع النص- في هذا المتراس. وإنما الثورة تقع في كيفية تقديم النص على القرطاس لدى توزيع ألفاظ نصه في المتراس الثالث من هذه القصيدة إذْ يعمد الناصّ إلى الاستظهار ببعض الأشكال الهندسية، وبعض الألفاظ الأوربية، والفارسية، والعبرية (يراجع عويل الحواس، ص 88)؛ وذلك بالحروف الأصلية لهذه اللغات.
ونلفي الناص في المتراس الرابع يُدرج بين النص والنصّ صوراً فوتوغرافية لبعض الشخصيات التاريخية والسياسية، العربية والأجنبية، أمثال جمال عبد الناصر، وياسر عرفات... وصورتين لابنتيه، فيما يبدو، وصورة للاعب "كاتش" ضخم كالجبل يلاعب صبيَّاً في عمر الثالثة، وصورة لامرأة جميلة، فتيّة، منعَّمة، ناضرة الجسد، ناهدة الثديين، بضة الذراعين، متناسقة الفخذين مع الساقين، وأمامها صبيّ رضيع منعّم ناضر (يبدو وأنها رمز للمرأة المنعّمة الشبعى (الأوربية والأمريكية...)، وتقابلها صورة امرأة أخراةٍ- إفريقية غالباً- فارعة الطول، هزيلة الجسد حافية القدمين، ترتدي أسمالاً سوداء تغطي بعض جسدها دون بعضه الآخر، لطولها وقصر الثوب البالي: وهي تقود طفلين اثنين هزيلين كالقصبة. وتشي الصورة ببطن هذه المرأة المنتفخ بأنها ستضع طفلاً آخر قريباً، وأمامها مجموعة أطفال آخرين؛ أحدهم يحمل واحداً منهم؛ وكأنه جثة هامدة...
إنَّ هاتين الصورتين المتناقضتين المتباعدتين: صورة الصبية المنعّمة مع صبيها الوديع السعيد، وصورة المرأة الفقيرة الهزيلة الجائعة مع صبيانها الهُزل بمرض سوء التغذية: كأنهما تعبير عما يحكم هذا العالم من تناقض وتفاوت طبقيين: عالم يعاني الطوى، وعالم آخر يعاني الكِظَّة.
إنَّ وضع هذه الصور المختلفة الدلالات والمضامين والأشكال، والتي بعضها سياسي وبعضها جنسي، وبعضها اجتماعي، بين أجزاء نصّ "المتراس الرابع": قد لا تنتهي دلالاتها؛ فهي مفتوحة القراءة، ومن العسير قراءتها قراءةً مغلقةً تأتي على كل إيحاءاتها. وهي، على كل حال، اجتهاد اقتضته الرغبة الجامحة إلى التجديد، والتطلع الشديد إلى تكسير السائد البليد. وهي أثناء ذلك ضرْب من التوثيق الذي تلتجئ إليه الكتابة الجديدة بِشقَّيها الجديد مألوفاً، فلم لا تفزع القصيدة الأجد إلى هذا الجنس من التوثيق تكسر به رتابة السائد، وتهزّ به المألوف القائم.
ومع أننا لا نتفق، وقد لا يكون هذا الاتفاق بين الناقد –القارئ- والمبدع الأول ضرورة، مع الشاعر في كل اجتهاداته وأشكالها، وفي اللغة الشعرية التي اتخذها سبيلاً للتعبير عنها؛ فإننا في الوقت ذاته، وبحكم تشرّبنا بالحداثة –وبالتراث أيضاً- لا نملك إلا أن ننوّه بهذا الجهد المنفرد الذي حاول الناص، عَبْرَه، أن يسلك سبيلاً لم يكد يسلكها أحد قبله، فيما نعلن نحن على الأقل. وليس للفن شكل نهائي نمضي عليه أخرى الليالي. وليس للشعر معايير ثابتة لا تتغير ولا تتبدل، نمضي نحن وتبقى هي، ونفنى نحن وتستمر هي. بل لعل العكس هو السليم. فالفن متجدد، أو يجب أن يكون متجدد الأشكال؛ وهو يمثل تحت ما لا يحصى من التجارب... ولا يعني بعض هذا إلاّ أننا ننبذ التقليد على سواء، ونعدّ المحاكاة ضرْباً من المعوقات الذهنية لدى من يمارسها! وإذن فليس ينبغي أن ينعى، على صاحب "متاريس مدن الخبز اليابس" ناعٍ لأنه جدّد واجتهد...
وما قيمة أن يكتب أحدنا على طريقة الأجداد: وهو لا يأكل، ولا يشرب، ولا يلبَس، ولا يتراوى، ولا يسافر، ولا يدرس، ولا ينام، ولا يستحمّ... على طريقتهم! وما هذه المغالطة الفكرية الشنيعة؟ وكيف يرتدي الشاعر التقليدي ربطة العنق، والبذلة الأوربية الأنيقة، والقميص الباريسي، والحذاء الإيطالي، ويتعطر بالعطر الفرنسي الفاخر... حتى إذا جاء يكتب كتب على طريقة الأجداد، وجاء بما عتق من الأشكال الأدبية؛ ولا يرتضي بذلك حتى يُنحي باللوائم على كل من لم يكتب الشعر كما كان يكتبه البحتري، وأبو نواس، والمتنبي، بل كما كان يكتبه الذين كانوا قبل أمثال هؤلاء؟!..
ثالثاً: مستوى النسج اللغوي
نحاول أن نحيد قليلاً، هنا، بمستوى النسج عن مستوى البناء (ولنكرر: إننا لا نريد، وما ينبغي لنا، بالبناء إلى البنية؛ فهما أمران مختلفان على الرغم من خلط بعض النقاد المعاصرين بينهما...)؛ فكأن اللغة في المستوى الأول – أعني مستوى بناء اللغة من حيث هي سمات اصطناعيّة بسيطة... –مفردات، أو سمات بسيطة، أو إفرادية، أو سمات لفظية طائرة مبعثرة؛ لا تكتمل وحدتها أو هيئتها الجمالية إلا بتعويمها في النسيج الشعري الذي يعمد فيه إبراهيم الجرادي إلى جملة من التشكيلات والطرائق؛ كما قد كنا لاحظنا بعض ذلك من قبل.
ومما يمكن أن ننقله للقارئ من هذا التشكيل الذي سَلَكَ فيه مسلكاً وقفه على جزء واحدٍ من "المتراس الثاني" من قصيدة "متاريس مدن الخبز اليابس":
تكتب. وكان نهدها مبلَّلاً به، وكانت الأغصانُ
مثلها وكان، قبل وقته، ينام، والمطر الجارف
في السهوب مثلها، وكانت الأعراف تفتدي
نشيجها، وكان صدرها، وكان كل شيء
نائماً بها، وكان ضَبْعٌ غارق بنفسه، وكانت
الأشياء مثلما تكون، عادةً، أشياءَ، كانت
الغزالة التي كانت، كما تكون، عادة، متعبة
على فراش بعلها، وكان وعْل البحر، كان
عطش، وكان بئر الدم، كان دمها مُلطخاً
بالدم، كان شالها، ولم تلن.. وكان أن
عطّرت الفراش وردة اللبلاب، كان أن
تصوغ نفسها النيران، كان أن... وكان شيئاً
غامضاً، وربما يكون شيئاً واضحاً، وكان ربما
يكون كان، كان أن شبت على الأغصان
وردة العويل، كان...
(الجرادي، عويل الحواس، 17-18).
ونحن نعتذر عن تحليل هذا النص الشعري الحداثي لأسباب تقنية تتعلق بحيز المسافة المخصصة لنشره... ولعلّ ذلك أن يتاح لنا في موقف آخر...
إن شعرية هذا الديوان، ولنكرر، لا تتمثل في رتابة إيقاعاته، ولا في جزالة ألفاظه، ولا في عمودية قصائده، ولا في غنائية نسجه... وهو ما كان النقد التقليدي يطالب به الشاعر ويُعنته من أجله... وإنما تتمثل في إيحائية لغته، وفي غياب إيقاعيته، وفي غرابة نسجه، وفي طفوح جِدّته، وفي مفارقة خياله... تقرأ، فإذا كأنك تقرأ لغة هذا الشعر لأول مرّة، وكأنّ الناصّ كان شديد الحرص، عارم الرغبة، في الاجتهاد في شحنها بدلالات جديدة، والتمكين لها في الانتشار على نحوٍ لم تَألف أن تنتشر عليه من ذي قبل...
فالعمل، لدى الجرادي، باللغة هو الشعر.
والشعر، لديه، هو العمل باللغة، هو اللعب بها.
ولا شيء يكمن خارج هذه اللغة.
وتلك سيرة الكتابة الجديدة، سيرةُ الأدب المستحيل...
****************************************************************************************
استقبال الشعر في عصور الأدب
د. محمد المبارك
ما كان الشعر العربي وقد مرّ بعصور مختلفة إلا أن تتغير أغراضه وأساليبه، ويتدرج مستوى التغير من توسع الغرض الشعري إلى اكتشاف أغراض جديدة … ونحسب أن اللغة هي مقياس مستوى التغير من عصر إلى عصر، ذلك لأن استخدام اللغة سواء تعلق الأمر بالاستخدام النحوي أو التعبيري أو الأسلوبي، هو الصورة التي تتجلى أمام الناقد، إذ تتوضح فيها اختلافات العصور ((وإذا أخذنا بالأطروحة العامة المقبولة لدى علماء السيميائيات (والاثنولوجيا) اللسانية، والقائلة (إن منظومة لغوية ما (الشيء الذي يعني ليس فقط مفرداتها بل أيضاً نحوها وتركيبها) تؤثر في طريقة رؤية أهلها للعالم وفي كيفية مفصلتهم له، وبالتالي في طريقة تفكيرهم) أمكن القول أن الكلمة التي يُرجعُ بها إلى معناها اللغوي إنما يطلب مدلولها كما كان يتحدد داخل المنظومة اللغوية التي تنتمي إليها، وبالتالي فهي لابد أن تحمل في معناها اللغوي قليلاً أو كثيراً من خصائص رؤية أهلها للعالم وكيفية مفصلتهم له وطريقة تفكيرهم في ظواهره وحوادثه)). ولا نستطيع الجزم بحقيقة التغيرات الحاصلة في الشعر العربي من خلال العصور دون النظر والتمعن في اللغة، فالشعر عبارة عن لغة طوعت، وانحرف بها عن مسارها المعهود، ولم يكن هذا التطويع والانحراف ليقطع اللغة الشعرية عن الأصل، بل جعل لها تميزاً، فأصبحت اللغة الشعرية نوعاً في اللغة، وتغير النسق اللغوي فأصبح للشعر شكله الخاص المختلف عن طبيعة اللغة العربية وغاياتها، هذا الاتصال والافتراق بين نمطين في اللغة .. الاستخدام الشعري والاستخدام العادي هو الذي هيأ أفقاً من المقارنات لقياس مديات التطور عبر الحقب فهل حدث تحول لغوي حقيقي يمكن في ضوئه قياس مستوى التغير، لكي يفرض تغيراً على مستوى التقبل أيضاً؟؟. وبين أيدينا شواهد مشهورة ذكرتها جل مصنفات الأدب، ونقلتها كتب المحدثين المعنية بالنقد العربي القديم، مثل اكتشاف ذي الرمة لانتحال الشعر من خلال اللغة المستخدمة فيه في مجلس القاضي بلال بن أبي بردة في البصرة، ولكننا لا نبحث عن هذه الجزئيات إلا إذا ضمها نظام شامل من التحولات، وإن كانت في مجملها مهمة. في إطار دعوتنا إلى اكتشاف حقيقة التحول في الحياة اللغوية بل الثقافية عامة. وبكلمة أخرى نبحث عما يجمع هذه الجزئيات في كل شامل موحد، نبحث عن الأسباب وليس عن النتائج. لأن النتيجة ستكون بعد بحكم المحصلة البدهية، ونبحث عن الآلية التي أحكمت التحول وجعلته واقعاً مشخصاً. من غير شك فإن ظهور الإسلام كان السبب في إحداث التحول الكبير والمهم في بنية الحياة العربية، فقد أحدث تحولاً على مستوى اللغة وعلى مستوى الوعي، لعلاقة الوثوق والاتحاد بين اللغة والوعي، سواء أكان وعي الذات أو وعي الآخر (الكون) .. وأحدث تحولاً على مستوى التلقي، فقد كان المتلقي يصغي إلى الشعر والخطب ثم أصبح يصغي إلى القرآن … ورفع القرآن من شأن اللغة وعلا بها علواً كبيراً، فرفع كل فنون القول وأساليبه.. وكان القرآن صدمة على مستوى التلقي، فانشغل الناس والنخبة المثقفة بتلقي النص القرآني، وأين يكمن الإعجاز فيه، وإذا اتفق الجميع على أن اللغة أحد وجوه الإعجاز، فقد انصرفوا إلى دراسة الأسلوب القرآني وتفسير آيات القرآن الكريم وتحليل مفرداته وجملِهِ وفواصله .. وبرزت أول مرة في تاريخ الفكر العربي مشكلة ثقافية كبرى يمكن أن نطلق عليها اسم (مشكلة التلقي). والنص المشكل هو النص الذي يحفز الذاكرة ويشحذ معطيات الفكر وهذه المشكلة وإن تعاملت مع نص من طراز خاص، نص موحى به من الله سبحانه، فإنها كانت تذر قرنها في الحياة الثقافية عامة، وتجلى الاهتمام بالتلقي عندما ألف مقاتل بن سليمان أول كتاب في تفسير القرآن (80 ـ 150هـ )، توالت المصنفات طوال الحقب التي أعقبت عصر التدوين، وتولى الإشراف على عملية تقبل النص القرآني أعيان المثقفين المشهود لهم بالمعرفة والدراية والحيطة العلمية والتقوى لأن الأمر يتعلق بصميم الدين وانتشاره وهداية الناس إليه .. فدخلت اللغة في طور جديد من الوحدة والاكتمال، وهذبت مفرداتها، وتكررت كلمات الله وصفاته وأسماؤه الحسنى على ألسنة الناس بفضل القرآن، وعلى هذا النحو وغيره حدث التحول الكبير في حياة العرب، وكان من الطبيعي أن يكون الشعر أول مَن يتأثر بهذا التحول وقد كان التأثير على صعيد التلقي مشابهاً لإنتاج النص، إن لم يكن أوسع منه مدى، فقد غابت شياطين الشعراء أو كادت، وفقد الشاعر بذلك بعض دوره القديم، حين تمزقت هالة السحر من حول الشعراء بفقدهم عنصر الإلهام إذ أوجد الإسلام مفهوماً جديداً للوحي.
يقول غوستاف فون غرنباوم في محاولة رصده للتحولات في الشعر العربي ((أما السمات البارزة التي اتسم بها الشعر العربي بعد تطوره التقليدي، فمن المناسب جمعها تحت ثلاثة مباحث:
أ ـ تطور الشكل. ب ـ اتساع الأغراض. ج ـ نشوء النقد والمباحث النظرية في الأدب)).
لكن التحول كان أبعد من ذلك بكثير .. وإن لم يحصل دفعة واحدة بل بعد عقود عديدة، وقد بلغ هذا التحول تطوره ونضجه عند الجاحظ في القرن الثالث .. وقد راعى الجاحظ ظروف التلقي في مصنفاته الواسعة .. لكن مشكلة التلقي ظلت قائمة، إذ رافق تلقي النص القرآني المعجز، تلق آخر لنصوص الشعر العربي قبل الإسلام مع فاصل في الزمن الخطي والحضاري تفصل بين النص المتلقي، لقد وجد الناقد العربي إن ثقافته الجديدة التي اغتنت اغتناء لا نظير له، مطلوب منها التعامل مع نصوص أدبية كتبت أصلاً قبل الحدث الخطير الذي زلزل حياة العرب. فالناقد استخدم ثقافة عصر آخر في تعامله مع النص الشعري الجاهلي، وتطلب هذا تكييفاً ثقافياً ومعرفياً من نوع خاص لدراسة النص .. فالشعر قبل الإسلام هو ديوان العرب وموضع فخارهم وسجل أيامهم وإنه مكتوب بلغة العرب التي شرفها الله بالقرآن، وهكذا تسربت إلى الشعر العربي روح من الاعتزاز ولا أقول القداسة، هذه الروح جعلت من هذا الشعر عند رواته ونقاده لا سيما في القرنين الثاني والثالث الهجريين مقياساً للشعر الجيد، وأهم مميزاته إنه يتوجه إلى العامة والخاصة من الناس، وأنه نص مطلق غالباً، لا يتقيد إلا بمواضعات القبيلة وقد يخرج عن إطارها، ورواة الشعر ونقاده في القرن الثاني الهجري مقيدون، يطلقن أحكاماً على شعر مطلق .. فلا شك في أن الإسلام قد أوجد نوعاً من الالتزام القولي والسلوكي، وإن الإنسان مراقب في قوله وفعله، فقد قال تعالى: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) إن رواة الشعر الجاهلي ونقاده اختلفوا اختلافاً بيناً (وهم المتلقون الأول) عن متلقي العصر الذي سبق الإسلام، فأبرزوا على مدى العصور التالية مشكلات جديدة لم تكن معروفة ولا مساغة من قبل، فظهرت ثلاث قضايا أساسية يمكن أن نضع تحتها جل قضايا النقد التي شغلت الأوساط الأدبية وهي على التوالي:
1 ـ الطبع الصنعة.
2 ـ الأصالة والانتحال.
3 ـ القدم والحداثة.
وهي مشكلات نقدية نابعة من التلقي، ومن ثقافة مغايرة للثقافة التي كتب فيها النص سوى أننا لم نفرد لمشكلة الصدق في العمل الفني حقلاً مستقلاً، لأنها كما نرى تتوزع على المشكلات الثلاث الكبرى. وقد كانت (الأصالة والانتحال) من أكثر الموضوعات الدالة على مشكلة التلقي، إذ أن الخبرة الثقافية واللغوية منحت الناقد (المتلقي) قدرة على فرز ما هو أصيل عما هو مصنوع على وفق المقاييس المعمول بها في ذلك العصر، واعتماداً على اللغة أولاً كما أشرنا إلى ذلك في مستهل هذا البحث، لقد طرحت مسألة الأصالة والانتحال لأن الشاعر قد تنازل عن دوره القديم، فقد هتكت سجف القداسة من حوله وتمزقت خيوطها، وغاب المتلقي الذي يقف مبهوراً أمام شاعر يتلقى الإلهام من قوى غيبية، وحل محله المتلقي الذي يحاسب الشاعر إن أخطأ ويثيبه إن أصاب، هذا فضلاً على أن عدداً كبيراً من الناس كانوا لا يرون في الشعر أية فائدة ويعتقدون (أن الشعر نقص وسفاهة).
إن التحول في الحياة الثقافية، قد رفده باستمرار تطور ورقي متواصل خاصة بعد انتشار الفتوح، وتمازج الثقافات فدخلت في الشعر أنماط جديدة، وصراعات فنية مذهبية وسياسية، وفكرية وعقائدية، وأصبحت استجابة المتلقي في بعض المواضع رهناً بهذه الانتماءات والنوازع، وهذا التلقي يختلف عن تحزب المتلقي لقبيلته ولشاعرها في عصر ما قبل الإسلام فالتلقي القديم لشاعر القبيلة قائم على علاقة الدم والعصبية إما التلقي الجدي في بعض أنماطه قائم على روابط أخرى قد تكون أكثر قوة من الأولى .. وكان الرواة مثل أبي عمرو بن العلاء وحماد الراوية والمفضل الضبي والأصمعي وغيرهم يقومون على رأس حركة انبعاثية إحيائية، أي بعث الشعر العربي القديم وجعله رافداً مهماً من روافد الحياة الجديدة. ولم يخل هذا الشعر من محاولات التنقيح وإعادة الصياغة، لكي يقبله الفهم ويقبل عليه، ولابد أن قسماً منه أغفله الرواة وأهملوه لنهي الإسلام عنه فهو لا يستوي مع متطلبات الحياة الجديدة.
وقد أوجد هذا التطور وضعاً جديداً على مستوى التلقي رصده المرزوقي (421هـ ) حيث أشار إلى انقسام الناس (المتلقين) على قسمين رئيسين: أصحاب الطبع وأصحاب الصنعة وهم الذين ((لما رأوا استغراب الناس للبديع على افتنانهم فيه، ولعوا بتورده اظهاراً للاقتدار وذهاباً إلى الاغراب فمن مفرط مقتصد، ومحمود فيما يأتيه ومذموم .. فمن مال إلى الأولى فلأنه أشبه بطرائق الاغراب لسلامته في السبك واستوائه في الفحص ومن مال إلى الثاني فلدلالته على كمال البراعة والالتذاذ بالغرابة)). ويترتب على هذين القسمين تحديد نوع الاستجابة، وأحسب أن النقاد في تفريقهم بين الطبع والصنعة قد بالغوا مبالغة كبيرة، على الرغم من غموض الدوافع التي دفعتهم إلى ذلك.
لقد قسم النقاد الشعر على مطبوع ومصنوع تخلصاً من الحرج الذي أوقعتهم فيه الحياة الجديدة، وقد نجد صدى لهذه المشكلة عند ابن طباطبا العلوي فمحنةُ ابن طباطبا كما أرى هي محنة التلقي وإن لم يصرح بذلك وتتجسد هذه المحنة في علاقة الشاعر بالممدوح يقول ابن طباطبا في العيار: (( .. فإذا كان المديح ناقصاً على الصفة التي ذكرناها، كان سبباً لحرمان قائله، والمتوسل به، وإذا كان الهجاء كذلك أيضاً كان سبباً لاستهانة المهجو به)). تتوضح أبعاد المعضلة هنا في نوع خاص من الشعر هو شعر المديح والمراثي أو شعر المديح التكسبي لا سيما وابن طباطبا شاعر يدرك ويحس بوطأة المديح على الشاعر حين يساق إليه طمعاً لا رغبة. على الرغم من أن شعر المديح التكسي ليس من مبتكرات البيئة الثقافية الجديدة بل هو من بقايا عصر ما قبل الإسلام إذا اشتهر به الأعشى وحسان بن ثابت والحطيئة وآخرون، ولكن مرحلة جديدة من التكسب بالشعر ظهرت وتوسع مداها، ولا يمكن لشاعر في الغالب أن يشتهر ويعرف إلا إذا فتح له الممدوح بابا، فالمدح طريق الشهرة، لكن الشعر أصيب بالصميم حين جعل منه الشاعر سلماً للمكاسب المالية، يقول ابن رشيق في العمدة: ((كان الشاعر في مبتدأ الأمر، أرفع منزلة من الخطيب لحاجتهم إلى الشعر في تخليد المآثر، وشدة المعارضة، وحماية العشيرة وتهييبهم عند شاعر غيرهم من القبائل فلا يقدم عليهم خوفاً من شاعرهم على نفسه وقبيلته، فلما تكسبوا به جعلوه طعمة، وتناولوا به الأعراض، صارت الخطابة فوقه)).
وقد يتحدث بعض النقاد عن شعر المديح التكسبي ويضعون شعر ما قبل الإسلام خارج دائرته وهم على صواب، لأن هذا النوع من الشعر لم يكن موسعاً ولا مضطرداً ولا يشكل نزوعاً رئيساً في ذلك الشعر، يقول الدكتور محمد عبدالمنعم خفاجي: (( … وهكذا ترى كيف حط التكسب بالشعر من مكانته، وإن كان هذا التكسب قد عاد عليه بالجودة والتنقيح، ومعاودة النظر فيه حتى يبرأ من العيب وليس معنى هذا إن الشعراء لم يكونوا من قبل يحفلون بهذه المراجعة، أو يرون إن الشعر فن يفتقر إلى التجويد والتنقيح، فهم قد شبهوا القصائد ببرود العصب، وهي ثياب محكمة النسج من اليمن وبالحلل والمعاطف والديباج والوشي وأشباهها))، ولكن السؤال الذي يدور في الذهن هو ماذا يعل الشاعر لو لم يجد أياً من الفضائل في شخصية الممدوح؟ هنا تبدأ محنة الشاعر الحقيقية ويبدأ الانفصال وانعدام التفاعل بين الشاعر ونصه، إنها أزمة حقيقية يعانيها الشعراء مثل أزمة المتنبي مع كافور، وإن أوجد الشعراء مخرجاً تأويلياً ومسوغاً مقبولاً في سلسلة من التوريات وطرق الأداء التي تؤدي في الأخير إلى غير المقاصد المدحية الظاهرة وتحولها إلى مقاصد أخرى .. وهذا الغرض الشعري قسم المتلقين على قسمين بل على أقسام متعددة، فالممدوح متلق أول للشعر وهو يتفاعل مع النص لأنه يلامس هوى ونوازع في نفسه، وهذه النوازع في الغالب شخصية بحتة، وقد يحابي أصحابه وحاشيته، ويستجيدون شعر الشاعر فيه، لكن المتلقي الآخر الواسع ربما يتساءل وما شأني، بكل هذه المبالغات التي تنسب إلى الممدوح، حقاً ما شأن هذا المتلقي بقول أبي نؤاس:
وأَخَفْتَ أهلَ الشِركِ حتى انّه
لتخافَكَ النُّطَفُ التي لم تُخْلق
وقد يربط المتلقي بين قول الشعر أو الدافع إلى قوله وطلب الحاجة والنوال، فينتابه نوع من الإحباط في تلقي النص، وشعور قبلي لا يساعد على التفاعل مع النص، وحين يصل التزلف إلى أعلى درجاته يصل التلقي إلى مستويات هابطة. إن المد التكسبي المفرط هو نمط غريب وبعيد عن جوهر الحياة الثقافية العربية بل هو نتوء ضخم في جسد الشعر العربي، لذا فقد سعى النقد الرعبي إلى التخلص من آثار هذا النوع من الشعر، كما فعل حازم القرطاجني بكل جد ومسؤولية فـ ((لا يتعامل حازم مع الشاعر باعتباره طالب فضل كما يفترض ابن رشيق بل يتعامل معه باعتباره صاحب رسالة مؤثرة في حياة الفرد والجماعة، ولولا هذا الإيمان بأهمية الشعر لما تقبل حازم ما قاله ابن سينا عن مقارنة الشاعر بالنبي، فهي مقارنة تهدف إلى رفع مكانة الشاعر وجعله يتنزل منزلة أشرف العالم وأفضلهم بدل منزلة أخس العالم وأنقصهم ولن تتحقق للشاعر هذه المكانة إلا بعد أن يعي الشاعر دوره المهم في حياة الجماعة، وبعد أن تعي الجماعة نفسها دور الشاعر)).
إن حازم القرطاجني يقف مع ابن طباطبا في تلمس مشكلة التلقي الشعري بل إن هاجس حازم كان التلقي، فهو يمثل بحق الروح الجديدة المتطلعة وإن تأخر عصره .. يقول القرطاجني: (( … ولكثرة القائلين المغالطين في دعوى النظم، لم يفرق الناس بين المسيء والمسف إلى الاستفراد بما يحدثهُ المحسن المرتفع عن الاسترفاد بالشعر)) فهو ينبه إلى تأثير الاستفراد بالشعر على المتلقي.
لقد فرضت البيئة الثقافية الجديدة، بعد توسع المعارف وتفاعل الثقافات ظروفاً جديدة على التلقي، فإذا كان تقسيم المتلقين على طبقات ليس من الظواهر المهمة في الشعر العربي قبل الإسلام، فإن الطبقية ظهرت بشكل واضح في العصر العباسي خاصة، فالشعر لا يعني الناس كلهم وإن المعارف والاصطلاحات وكذلك الميزات الأسلوبية التي دخلت الشعر جعلت ظهور طبقات للمستمعين والقراء أمراً لا مناص منه يقول ابن الأثير: (( … والمذهب عندي في ذلك ما أذكره وهو إن فهم العامة ليس شرطاً معتراً في اختيار الكلام لأنه لو كان شرطاً لوجب على قياسه إن يستعمل في الكلام الألفاظ العامية المبتذلة عندهم، ليكون ذلك أقرب إلى فهمهم لأن العلة في اختيار تطويل الكلام، إذا كانت فهم العامة إياه، فكذلك تجعل تلك العلة بعينها في اختيار المبتذل من الكلام، فإنه لا خلاف في أن العامة إلى فهمه أقرب من فهم ما يقل ابتذالهم إياه. وهذا شيء مدفوع. وأما الذي يجب توخيه واعتماده فهو أن يسلك المذهب القويم في تركيب الألفاظ على المعاني، بحيث لا تزيد هذه على هذه، مع الإيضاح والإبانة، وليس على مستعمل ذلك أن يفهم العامة كلامه، فإن نور الشمس إذا لم يره الأعمى لا يكون ذلك نقصاً في استنارته، وإنما النقص في بصر الأعمى حين لم يستطع النظر إليه)) وكلام ابن الأثير ذو وجهين، الأول: إن على المتلقي أن يبذل جهداً لكي يبصر النص ويتفاعل معه ويفهم عناه ومغزاه، والثاني: أن الفهم الحقيقي للأدب مقتصر على نوع خاص من المتلقين، أولئك الذين يستطيعون الصعود إلى مستوى النص، وإن فهم العامة للنص ليس شرطاً للنص الجيد، وكأن ابن الأثير يرد هنا على جملة من المسائل، ومنها الغموض في الشعر التي طال حولها النقاش.
إن اتساع التلقي وتعدد طبقات السامعين والقراء، أدى ضرورة إلى إعادة النظر في الغرض الشعري، فهل بقيت أغراض الشعر كما هي ولم يحصل سوى توسيع هذه الأغراض كما يقول غرونباوم في المقتبس الذي أوردناه في الصفحات الأول من هذا البحث؟؟.
يحاول الدكتور إبراهيم أنيس أن يلخص الموضوعات التي نظم فيها الشعر الجاهلي وهي لا تخرج كما يقول عن ((الفخر والحماسة والمدح بما في ذلك الرثاء الذي هو عندهم مدح الميت والوصف في بعض الأحيان، ثم زاد في العصر الأموي كثرة النظم في الغزل وأصبح فناً مستقلاً من فنون الشعر كما زاد النظم في الشؤون السياسية. ولما استقر الملك للعباسيين أكثر شعراؤهم من الموضوعات السابقة من الشعر المجوني ووصف الخمر ومجالس اللهو والعبث ووصف الرياض والأزهار أو المناظر الطبيعية)).
وإلى جانب ذلك قدمت تفسيرات لاحتواء القصيدة على أكثر من غرض شعري واحد، فالقصد من ذلك هو جذب المتلقي مثل تفسير وجود النسيب في مقدمة القصيدة، إذ ذهب ابن قتيبة هذا المذهب ((وتوالت بعد ابن قتيبة التفسيرات وقدم المحدثون تعليلات كثيرة ففريق منهم لم يزد على ما قدمه ابن قتيبة إذ عد النسيب في مقدمة القصيدة وسيلة لجذب انتباه السامعين وشدهم لما يقوله)).
وقد يكون مقبولاً أن يقصد الشاعر العربي قبل الإسلام جذب انتباه السامعين من الأبيات الأول للقصيدة، وهذا وعي متقدم بأهمية التلقي، ولو نقلنا الأمر إلى العصور التالية حين أخذ الشعراء يبتعدون تدريجياً عن سلوك الطريقة القديمة لوجدنا تعدد مناحي اهتمام المتلقين في العصور التالية، ون بقي النسيب قريباً من المتلقي، بيد أن العقلية الشعرية اجترحت أساليب جديدة قسم منها اعتمد على الأساليب القديمة مثل الشعر العذري وقسم منها كان جديداً كل الجدة .. إن تحولاً كبيراً قد طرأ على مجمل الغرض الشعري، لهذا فإن من التبسيط المخل أن نركن إلى التقسيمات التقليدية للأغراض الشعرية. لقد حدث تحول داخل الغرض الشعري. ولا ينبغي الاعتقاد بأن الشعراء كلهم يبغون المدح التكسبي، فديوان الممدوحين غالباً ما يضم النخبة من علماء الأدب والفكر والثقافة، وهم إن وجدوا في شاعر ما ابداعاً متميزاً سعواً إلى نشر شعره وتقديمه لناس .. وهذا سبب آخر جعل لشعر المديح القدح المعلّى في مجمل الإبداع الشعري، بيد أن هذه المجالس لم تكن ذات صفات موحدة من الناحية العلمية والثقافية، تماماً كما هو الحال مع الممدوح، فقد يكون الأخير شاعراً هو الآخر أو معني بالشعر غالبا، وقد يكون غير ذلك، وهذا كله له علاقة نفسية بالشاعر وله تأثير بالتالي على النص، وقد انساق بعض النقاد إلى الأخذ بجانب الممدوح دون الشاعر أي أن الشاعر يجب أن يكيف نصه كي يتناسب مع المتلقي المحدود لا الواسع، وهو قيد ثقيل على الشعر، وتقييد لحرية الانطلاق، فالحرية فضاء الشاعر ومتنفسه؟ يقول ابن الأثير: ((ومن قبيح الابتداءات قول ذي الرمة:
(ما بال عينيك منها الماء ينسرب) … لأن مقابلة الممدوح بهذا الخطاب لا خفاء بقبحه وكراهته، ولما أنشد الأخطل عبدالملك بن مروان قصيدته التي أولها: خف القطين فراحوا منك أو بكروا، قال عن ذلك: لا بل منك، وتطير من قوله فغيرها وقال: (خف القطين فراحوا اليوم أو بكروا) .. ومن شاء أن يذكر الديار والأطلال في شعر فليتأدب بأدب القطامي على جفاء طبعه وبعده عن فطانة الأدب)). وما كان الشاعر إلا مخاطباً نفسه على سبيل التجريد .. فاصطدم بالمتلقي الذي ظن أنه يروم منه انتقاصاً. ولو أنشد القصيدة في مجمع من الناس لما اضطر إلى تغيير بعض مفرداتها .. وعلى الرغم من هذا التأثير غير المحمود على النص، فإن شعر المديح كان دون شك أحد العوامل المحفزة على الإبداع وقول الشعر. إن غرض المديح هو واحد من الأغراض الرئيسة في القصدية العربية قد تحول إلى نمط شعري جديد يتناسب مع معطيات الحياة الجديدة، وأصبحت له منافذ أخرى، فهناك المديح الخالص الذي لا يبغي نوالاً وهو كثير في الشعر العربي، وهناك المدائح النبوية ومدائح الخلفاء الراشدين والصحابة، وهناك مدح القيم الجديدة وتقريب فضائلها للناس .. بل إن هناك تحولاً داخل الغرض الشعري أصبح فيما بعد تحولاً في بنية الخطاب إلا وهو شعر الحكمة والزهد الذي استقر فيما بعد مشكلاً تياراً مهماً وهو الشعر الصوفي وهو نوع جديد من الشعر طلعت به الحياة الثقافية الجديدة ولم يكن معروفاً قبل ذلك .. ويهمنا الوقوف على الشعر الصوفي إذ أنه وضع المتلقي في أولى مهماته .. فإذا كان النسيب سبباً لجذب انتباه المتلقي إلى النص في مفتتح القصدية، فإن شعر الغزل، ولا سيما الغزل العذري سيكون أكثر تأثيراً في متلقيه ما دام يقوم على رمز المرأة وعلى العفة أيضاً، وقد التقط الصوفيون الأوائل هذا المنحى الشعري وحولوه لأغراضهم ((حيث إن الغزل العذري كان إرهاصاً ومدخلاً لرمز المرأة في الشعر الصوفي)). بل إن بعض الباحثين يذهب إلى أن الغزليين من الزهاد كانوا أسبق من العذريين وهذا دليل آخر على عناية الشعر الصوفي ممثلاً بطلائعه من الزهاد بالمتلقي ومحاولة جذبه للتعامل مع النص ((إذ كان ظهور الغزليين من الزهاد والأتقياء في القرون الهجرية الأولى كعبدالرحمن بن أبي عمار الشهير بالقس وعروة بن أذينة ويحيى بن مالك وغيرهم، إرهاصاً بهذا التوفيق الذي تم في الشعر الصوفي بين الحب الإنساني والحب الإلهي، أو التعبير عن الحب الإلهي بلغة العواطف الإنسانية، كما يتيح ظهورهم مجالاً لمقارنة مسلك العذريين بمسلك الزهاد الأتقياء)).
فالغزل العذري أكثر من مجرد توسيع غرض الغزل القديم، إنه إيذان بلون جديد من الشعر فرضته البيئة الإسلامية الجديدة، وما أشاعته من تسامح وأُلفة وتقوى، وهو مع شعر الزهاد أسهم في ولادة روافد جديدة كل الجدة في الشعر العربي. وقد أنشد بعض الصوفية شعراً للشعراء الغزليين والعذريين، فهذا يوسف بن الحسين الرازي الذي صحب ذا النون المصري ورافق أبا سعيد الخراز في بعض أسفاره ينشد لصريع الغواني (مسلم بن الوليد) فيقول:
أنا ورد الخدود والحدق النجل
وما في الثغور من اقحوان
واعوجاج الأصداغ في ظاهر الخد
وما في الصدور من رمان
تركتني بين الغواني صريعا
فلهذا أدعى صريع الغواني
وقد تجاوز الصوفية حدود الغزل العذري أحياناً، ويبدو أن ولعهم الطاغي بالغزل لا لذاته بل لجعله معبراً نحو دواخل المتلقي، فإذا اطمأن لحلاوة النص وجمال النسيب أدخل الشاعر في مقطوعته بعض أفكاره الصوفية لا سيما الحب الإلهي. فلغة الشعر الصوفي ليست لغة غزل وإن كانت توحي به .. إنها تلتقي به وتفترق عنه في الوقت نفسه، وهذا في الحق مدخل من مداخل منطق الأشياء المبني أصلاً على التناقض والتضاد وقد يجمل بالصوفي أن يعبر نثراً بأجمل ما يكون التعبير عن فكرةٍ ما من الأفكار التي شغف بها الصوفيون مثل فكرة المحبة، قال سمنون المحب: ((لا يعبر عن الشيء إلا بما هو أرق منه ولا شيء أرق من المحبة، فبم يعبر عنها)) ويقول:
أمسى بخدي للدموع رسوم
أسفا عليك وفي الفؤاد كلوم
والصبر يحسن في المصائب كلها
الا عليك فإنه مذموم
بيد أن الشعر الصوفي مضى في طريقه مطوراً رؤياه الشعرية، محاولاً الهيمنة على وعي المتلقي من خلال المقطعات الشعرية القصيرة التي وجدت في القرنين الثاني والثالث، قبل أن تتوسع القصيدة ويصبح لها كيان واضح في القرن الرابع عند كل من الحلاج وأبي بكر الشبلي .. يقول الدكتور مصطفى الشيبي متحدثاً عن الحلاج: ((وقارئ ديوان الحلاج يلمس بوضوح أنه كان موفقاً في كثير من القصائد والمقطعات من الناحية الشكلية، إلى جانب توفيقه من الناحية الموضوعية، فالسلامة والانسياب والإطراد والرصانة في الأسلوب وتسلسل المعاني والانسجام بين الألفاظ أشياء نجدها في كثير من قطعه، من حيث فهمه للموضوع وقدرته على الأداء)).
لقد استطاع الحلاج أن يكون السباق إلى توضيح الأسلوب الشعري الصوفي القائم على استخدام خاص للغة، لقد نحت الصوفية منذ زمن الحلاج وقبله معجمهم الشعري الخاص بهم، فأصبحت لهم لغة شعرية مدلة عليهم ومشيرة إليهم، يقول الدكتور الشيبي متحدثاً عما يسميه الصورة الشكلية لشعر الصوفي: ((إن هذه الصورة تستمد وجودها أساساً من اللغة الخاصة التي اتخذها الشعر الصوفي لنفسه منذ القرن الثالث، فقارئ شعر الحلاج يلاحظ بوضوح أن اللغة التي استخدمها الحلاج للتعبير عن معانيه الصوفية لغة خاصة ليست كاللغة التي يتداولها الناس فهي لغة ذات اصطلاحات فنية خاصة ( … ) وهذه اللغة ذات الاصطلاحات والأساليب الخاصة استعملها الحلاج بشكل ظاهر لأول مرة في الشعر الصوفي، وصاغ منها ثروة شعرية لم تؤثر عن أحد ممن تقدموه، وبذل استطاع الحلاج أن يحدد صورة شكلية خاصة للشعر الصوفي تميزه عن الشكل العام للشعر العربي)).
إن الاستعمال الخاص للضمائر وبعض الحروف، هي ميزة صوفية أكثر منها الحلاج وتابعه آخرون ممن أتوا بعده، هي موجهة إلى المتلقي بشكل خاص لتستبد برؤيته وتوقظ ذهنه وذكاءه، إن الضمائر المستخدمة مع تكرار الحروف، هي دعوة من الحلاج لسامعه وقارئه، يقول في إحدى مقطوعاته:
نسمات الصبح قولي للرشا
لم يزدني الورد إلا عطشا
لي حبيب حبه وسط الحشا
إن يشا يمشي على خدي مشى
روحه روحي وروحي روحه
إن يشا شئت وإن شئت يشا
لقد استعمل حرف الشين استخداماً جديداً ووظفه توظيفاً حسناً، فجاء في سياق النص الشعري الصوفي معبراً عن وجد وشوق ورقة بالغة.
وربما كان انشغال النقاد بقصائد طويلة للمتنبي وأبي العلاء وغيرهما سبباً في إهمال الشعر الصوفي. وقد نجد لهذا الإهمال مسوغاً آخر، فالشعر الصوفي لم ينضج نضجاً كاملاً إلا في القرن السادس الهجري وما بعده حين برز شعراء مجيدون مثل عمر بن الفارض والسهروردي وجلال الدين الرومي وأبي مدين التلمساني وعبدالغني النابلسي .. ومع ذلك فإن ضعف الاهتمام النقدي كان سبباً ربما بضياع الكثير من الشعر الصوفي، يقول ياقوت في معجم الأدباء عن السهروردي: ((وله شعر كثير، أشهر وأجوده الحائية (ابدا تحن إليكم الأرواح) ومن المؤسف أن لا نعثر في أكثر كتب الأدب والحكمة والتصوف إلا على هذه القصيدة وبعض مقطوعات تصور بعض نزعاته الصوفية)). وكان شأن مؤلفيهم كشأن شعرائهم طواهم النسيان ولم تعنَ المصادر القديمة عناية كافية بهم، يقول نيكلسون متحدثاً عن أبي نصر السراج الطوسي (378هـ ): ((ليس لدينا إلا القليل عن تاريخ حياة السراج، فإن مؤلفي التصوف القديم مروا عليه في سكوت)).
إن شعر التصوف واحد من الأدلة على تغير الغرض الشعري تغيراً كبيراً، إذ أوجد متلقياً جديداً يمل المتصوفة جاهدين على كسب وده والتحاور معه عن طريق جملة من الاستعمالات اللغوية والارشادات الفكرية التي تصدم المتلقي لجدتها وطرافتها.
*المصدر : استقبال الشعر في عصور الادب.
http://www.balagh.com/mosoa/fonon/fonon.htm