فكر وفلسفة


الإرهاب
سعيد بنكراد
الموقع
 ما وقع في الأيام الأخيرة شيء بشع. للمرة الثانية يستيقظ المغاربة على دوي الانفجارات والجثث المنتشرة في شوارع البيضاء نتيجة عمل إرهابي. سقطت أسطورة " الاستثناء المغربي" إذن، ولم يعد هناك من ستار نختفي وراءه سوى مجابهة الحقيقة كما هي دون مساحيق. لن نحتمي بعد اليوم بشعارات التسامح والتآخي والبلد الأمين. نحن جزء من هذا الكون، نعيش منجزاته كما نعيش أمراضه ومآسيه، ولسنا في مأمن من أوضاعنا، ولسنا بعيدين عما يجري في العالم من تطاحن واقتتال وصل حد العبث في أحيان كثيرة.
ربما للمرة الأولى نحس أننا لسنا آمنين من أنفسنا، كما أوهمونا بذلك لسنوات طويلة. فبيننا، أبناؤنا إخوتنا أصدقاؤنا ومعارفنا، من يستقتل انتقاما من نفسه أو من غيره أو من أجل استرجاع زمن أصلي غيبه التحديث المتتالي، أو ليشفي غليله نتيجة حقد صغير أو كبير، أو من أجل غاية لا يعرفها إلا الذين يحرضون على القتل باسم الله والدين ويعِدون المعدمين بثروات لا تفنى في جنات أُعدت لهم وحدهم. ما وقع شيء حقيقي، فآلة القتل الهمجي قد حطت بيننا، ولا يمكن أن تلغيها الإدانة البسيطة أو يجتثها الاستنكار القوي.
هؤلاء ليسوا خصوما في الرأي والرؤية والتصور. إنهم إرهابيون قتلة بالحرف وبالمجاز، يتموا ورملوا وقتلوا مواطنين أبرياء وقتلوا رجالا شجعانا وهم يقومون بواجبهم من أجل حمايتنا. ولكنهم إرهابيون منا، من صلبنا، هنا كانوا وسيظلون إلى الأبد، فتحت هذه السماء ولدوا وترعرعوا ولم يروا شمسا أخرى غير هاته التي نستظل بها جميعا. لن نرحِّلهم إلى بلد آخر ولن نقتلهم جميعا.
وإذا كان لي أن أدين ما جرى، فإنني أعلنها بكل قوة: يا لبئس ما فعلتم بنا وبأنفسكم وبالوطن. فليس هناك في الكون كله ما يبرر القتل أو يدعو إليه. بل بالإمكان أن أزايد وآتي بكل الصفات التي نستحضرها عادة في هذه المناسبات ك"الجريمة النكراء" و"العمل الجبان" و" القتل الهمجي " وما تشاؤون من قاموس الشتيمة المتداول حاليا في السوق السياسية ومشتقاتها. وما حدث هو كذلك بالفعل. ولكن الشتيمة لا تجدي ولا طائل من ورائها، أو هي كذلك في تصوري على الأقل، فأنا فرد أعزل ولست مؤسسة لها أسهم في بورصة السياسة. وفي جميع الحالات، فإن التنديد القوي لا يمكن أن يلغي ما جرى ولن يمنع من تكرار ما حدث.
لماذا وقع ما وقع ؟ هو ذا السؤال الذي يجب أن نجيب عنه جميعا ومن مواقعنا المختلفة. أما كيف وقع فتلك مهمة أخرى. فأجهزة الأمن وحدها لا تسأل عن سبب القتل، ولها الحق في ذلك، فمهمتها هي القبض على القاتل لا البحث عن ظروف تخفف أو تفسر ما فعل. أما أنا فلست في وضع من يحاسب أو يحاكم، ليس بوسعي سوى التساؤل عن دوافع ما حدث، لكي لا يحدث مرة أخرى هذا الذي حدث. إن للإرهاب أوجها متعددة، ليس القتل سوى واحد منها، هو اللحظة النهائية التي ينفجر فيها ما علق بالنفس والذهن والوجدان على مر السنين: بذرة الشوك أطول عمرا من وخزه، وحمم البركان لا تنسينا أن فوهته تمتد عميقا في الأرض.
قد لا نتبين بوضوح حقيقة كل هذا القتل العبثي، ولكن الثابت أن ما وقع هو رد فعل شباب يائس خانه الوعي وارتمى في أحضان حقد أعمى حوله إلى أداة تزرع الرعب والموت في كل مكان. إن الحقد لا يبني ولا يعمر ولا يقود إلى التحرر، إنه طاقة تدميرية مهولة، كراهية منفلتة من عقالها وتضرب في كل الاتجاهات. لهذا لا يستهدف الإرهاب السلطة السياسية فحسب، إنه يروم تقويض دعامات البناء الاجتماعي ذاته من أجل فرض حقيقة واحدة تلغي الحياة ببساطة، بتعددها واختلافها وتنوعها والنسبي فيها والعرضي. وهذا هو الخطر الداهم. إن الحياة مبرمجة في النصوص، أو في تأويلها: ما يتعلق باللباس والأكل والضحك والحب ومباشرة الزوجة في الفراش. إنهم يريدون توحيد ما لا يريد الله ذاته توحيده، فالخير والشر جزء من الوجود الإنساني على الأرض، وانتفاء أحدهما من على وجهها انتفاء للزمن ذاته.
إن الأمن شيء هام، ولا يمكن الاستهانة به كحل ضروري، ولكنه لن يستأصل الداء ما لم يندرج ضمن استراتيجية شاملة تمكن الدولة المغربية، وربما لأول مرة في تاريخها، أن تنحاز إلى اختيار حضاري يشمل كل مناحي الحياة، وتتخلى عن هاجس الأمن والاستقرار المزيف. فلا يمكن محاربة الإرهاب بالتخلي المتزايد عن مواقع داخل المجتمع لصالح قوى معتدلة وأخرى قريبة من الاعتدال وثالثة تطمح إليه، والاستعانة بخبراء أمريكا لإصلاح واقع " الحال". كما لا يمكن محاربته بالمزيد من تديين الفضاء العمومي، والاحتفاء بالزوايا والمواسم والتغني بوحدانية المذهب واعتداله. فلن تجدي بعد اليوم " أيام المساجد " و" العطل للجميع" و" التنشيط الموسمي". كما لا يمكن محاربته من خلال خلق جزر "حداثية" ينعم أهلها بمزايا التحديث، وسط محيط من الجهل والتخلف والفقر.
إن الإرهاب ليس ظاهرة دينية، ولم يكن كذلك في يوم من الأيام. إنه حل ديني لمشاكل من طبيعة أخرى، وأسهل الحلول هي الاستكانة للمعروف الضامن للراحة والسكينة، وليس هناك أكثر من الدين قدرة على توفير هذه الراحة. إن الظاهرة وليدة شيء آخر. إنها خليط من الاجتماع والثقافة والاقتصاد والشعور الجمعي بالمهانة. ولا يمكن أن تحل إلا ضمن هذا الثالوث المركزي. لذلك، فإن تجزيء المجتمع إلى كيانات متمايزة، والفصل والعزل والتصدق كلها عمليات لن تقود إلا إلى خلق حالة عجز عند المجتمع ستحول بينه وبين قدرته على استيعاب تناقضاته ضمن سقف ثقافي يوحد المتعدد والمتنوع ويتعرف فيه كل فرد على نفسه.
إن الإرهاب يولد صغيرا وينمو ويترعرع في غفلة منا ومن أجهزة المراقبة بكل أشكالها. فنحن لا ننتبه إليه إلا حين يتحول إلى متفجرات وأحزمة تنسف النفس والبلاد والعباد بلا رحمة. إن الإرهاب يبرعم في برامج المدرسة ومقررات الجامعات والثقافة والأحكام الجاهزة وفي التهميش والحقر والعبث بالمال العام. إنه في اليقين الذي تعلمناه ونعلمه للأطفال والتلاميذ والطلبة. يقين الحقيقة التي لا تشبه حقائق الآخرين وتخرجنا من زمنية الإنسانية وتدرجنا ضمن زمنية قيمية لاتاريخية خاصة بنا وحدنا وليست لغيرنا.  فإذا لم نبادر إلى إصلاح هذا الوضع وانتشال ناشئتنا من براثن هذا الطاعون الذي يفتك بالعقول الصغيرة، فإن يد الإرهاب ستمتد لتفتك بنا جميعا.
يجب إعادة النظر في كل شيء، في القيم والتربية والتعليم وحقائق التاريخ والمألوف الذي اطمأنت إليه النفوس طويلا. ولكن علينا أن نفعل ذلك وفق رؤانا وضمن تاريخنا وتراثنا لا خارجه استنادا إلى المتاح المعرفي المعاصر، لا استجابة لضغوط تأتينا من آخر هو ذاته لم يتخلص من عقدة النظرة المركزية للتاريخ وتطوراته. نحن لا يمكن أن نشكك في تاريخنا، كما يفعل الذين يبررون سيئات غيرنا بسيئاتنا في التاريخ القديم أو الحديث، ولكن علينا أن نتعلم كيف ننتمي إلى التاريخ الكوني للإنسانية جمعاء.
فلا أحد له الحق في التصرف بالحذف أو الإضافة أو التحوير في تراث الآخر. فما حدث قد حدث ولا يمكن إنكاره، والتأويل لا يُلغى إلا بتأويل آخر، والتراث في نهاية الأمر ملك للإنسانية جمعاء لا للذين ينتمون إليه فقط. فكل ما خلفه الإنسان وراءه من خرافات وأساطير إنما يشهد على عظمته، لا على قصور في الفهم عنده. إن الإرهاب لا يمكن أن يوجد في التراث، إنه في النظرة إليه وفي استعماله وتكييفه مع غايات بعينها. لذلك، فإن التخلص من سلبياته لا يتم بالحذف أو التدمير أو الطمس أو التشويش عليه. إن النصوص عنيدة، ولا يمكن التحايل عليها. تماما كما لا يمكن توجيه مسار التاريخ عنوة، أو تصحيح الماضي بحذف نصوص من رفوفه.
إن الوعي بتاريخية الموروث هي أقصر السبل للتخلص من سلبياته. والتاريخية في مجال التربية والتعليم ليست نظرية في دراسة التراث، بل هي منطق تلقيني يجنب الطفل هلع " القتل" و" الجهاد " و" القصاص" و" السلاسل الممتدة " وهو في عمر الزهور. لكل مرحلة جرعة من المعرفة تلائمها. نحن لا نجب من قبلنا، ولسنا وحدنا في الكون، وحكاياتنا هي حكايات الإنسانية جميعها مع الظلم والعسف والفرح ومحاولة فهم ما جرى في العصور الغابرة. لم نلغ ما ورثناه عن الأمم الأخرى، بل أضفنا إليه جزءا منا ومن تصورنا للوجود كما تقوله لغتنا وثقافتنا، وكما تقوله الجغرافيا التي فيها جئنا إلى الوجود. فلنعلم أطفالنا حكايات الآخرين حتى لا يشعروا بالغربة في التاريخ والأرض.
ولن نقضي على الإرهاب بالاقتناع أننا متسامحون ونحن ننظم حفلات نتغنى فيها ب" السلام والإخاء " ولا يحضرها إلا أمثالنا، هؤلاء الذين يملكون أفكارنا. إننا لا نقنع، بل نقتنع بما صنعنا فقط. فما يفكر الناس فيه ويؤمنون به هو غير ما تقوله التلفزات الرسمية بمناسبة الأماسي التي يحييها المجتمع المخملي احتفاء ب" روح التسامح" عندنا. الداء في مكان آخر أيها السادة، غير هذه الشعارات العالمة التي عاشها الشعب بعفوية منذ مئات السنين على شكل سلوك يومي نفعي آخى بين اليهودي والمسيحي والمسلم نتيجة تداخل المصالح لا نتيجة الصراع على من يدخل الجنة أو يظل خارجها. إن ثقافة الشعب لا تعرف الحقد، إن الحقد يولده الغبن والحقر والظلم والتهميش. من هنا نبدأ، وعلى الجميع أن يؤدي ثمن الانتماء إلى الوطن، وفي هذا الاتجاه يجب أن نسير، فما زال الأمل كبيرا في تدارك ما حصل.
*********************************************************************************
العولمة وتفتيت الهوية
بقلم : فارح مسرحيإطلع على مواضيعي الأخرى
[ شوهد : 103 مرة ]
تنطلق هذه الورقة من المعطيات المؤطرة لراهن البشرية، التي تعد إطارا مواجها ، ضاغطا ومؤسسا للمستقبل، ثم محاولة أشكلة موضوع الهوية في ضوء هذه المعطيات للتعرف على التأثيرات التي يمارسها الحاضر على تصورنا للهوية من خلال تأثر عناصرها لإكراهات هذا الحاضر وتعقيداته، والسعي أخير إلى توصيف ملامح مقاربة جديدة وفهم جديد الهوية يكون في الآن نفسه على وعي حقيقي بالحاضر والمستقبل من جهة وعلى وعي مماثل بالمرجعيات الأساسية لعناصر الهوية، مستلهمين في ذلك التصور الذي كثيرا ما ردده مولود قاسم نايت بلقاسم من أن الإنسان مطالب بأن يكون ابن عصره، محافظا على أديم مصره دون أن يصبح نسخة غيره، وعليه يمكن صياغة الإشكالية التي تبحثها هذه الورقة كما يلي: ما هي انعكاسات العولمة على مفهوم الهوية؟ وكيف ينبغي النظر للهوية للحفاظ عليها في ظل هذه العولمة ؟

أولا: العولمة كنسق للهيمنة :
كثيرة هي المفاهيم التي أفرزتها التغيرات التي شهدها العالم منذ النصف الثاني من القرن العشرين، والتي يتم تسويقها وتداولها على أنها واضحة، براقة ، جذابة غير أن الكثير من هذه المفاهيم ظاهره فيه الرحمة وباطنه العذاب لمن استطاع سبر أغوارها بالتدقيق والتحقيق في كنهها ومنتهى مضامينها، ومن أبرز هذه المفاهيم/ التوجهات، الديمقراطية، حقوق الإنسان، حماية الأقليات، حوار حضارات والثقافات والديانات.
وتتم الدعوة لهذه التوجهات ضمن المقولة الأم، مقولة العولمة التي هي غاية ومآل هذه التوجهات والصدر الحاضن لها جميعا وقد كثر الحديث عن العولمة حتى قبل أن تتجسد أو تتحقق في أرض الواقع، سواء كان حديثا تهويليا حول آثارها التدميرية وانعكاساتها السلبية على كثير من المجتمعات، أو كان حديثا تهليليا داعيا إلى ضرورة ركوب موجتها بعتبارها السبيل الأمثل للتحرير والتنوير والنجاة ولكن، بدل أن تنتهي المناقشات والندوات التي عقدت لأجل فهم العولمة وتحديد آليات التعامل معها إلى توضيح مدلولها، انتهت إلى عكس ذلك تماما إذ ازداد المفهوم غموضا والتباسا وتعتم بريقه ولم يعد يحيل إلى أي شيء ظاهر للعيان، دون أن يعني ذلك فشل العولمة أو نهايتها، بقدر ما يعني صعوبة اختراق آليات اشتغالها التي ينطبق عليها ما أسماه ميشيل فوكو بـ: ميكروفيزياء السلطة.
بالنظر إلى راهن البشرية نجد أنه يقوم على ثنائية متضادة يتم فيها التميز بين إنسان ينتمي لعالم قوي، مهيمن، وإنسان ينتمي إلى عالم متخلف ضعيف مهيمن عليه، وهذه الثنائية التي تحدث عنها كثيرا عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو، والتي تعمل على تغييب المفهوم الحقيقي للإنسان الذي كرمته مختلف المذاهب الفلسفية ومختلف الأديان، جاعلة منه كائنا ساميا يسعى بفضل إقدامه وفضوله المعرفي لفهم ما يحيط به وتحسين ظروف حياة البشرية جمعاء.
واستقراء التاريخ الغربي منذ بداية الأزمنة الحديثة باكتشاف العالم الجديد–القارة الأمريكية– مع نهاية القرن الخامس عشر وبداية القرن السادس عشر، وما تلا ذلك يوضح لنا كيف راح العقل الغربي يحول إرادة المعرفة التي جبل عليها الإنسان إلى إرادة للهيمنة والسيطرة على الطبيعة أولا وعلى الإنسان/الآخر ثانيا وأخيرا، وكيف تحول الإنسان من خير إلى شرير وأناني وذئب بلغة الفيلسوف توماس هوبز، فمقولة“ المعرفة قوة” التي أعلنها فرنسيس بيكون، السعي إلى“ترييض وترويض الطبيعة” بلغة ديكارت كانتا كافيتين لانطلاق العقل الغربي واندفاعه للسيطرة على الطبيعة وإخضاعها لمقاييسه وغاياته، ثم جاءت الأنتربولوجيا التقليدية والاستشراق كمجالين معرفيين موجهين لخدمة الأغراض الاستعمارية التوسعية قصد السيطرة على الإنسان الأخر، المختلف عن الإنسان الغربي وكل ذلك كان موجها لتحقيق مصالح هذا الأخير، وإشباع غرائزه ونزواته وإعلان هيمنته على الكون كخطوة أولى، ليأتي إعلان تألهه بعد أن أرغم نيتشه الإله على الأفول والانسحاب من هذا العالم، فاسحا المجال أمام الإنسان الأعلى المستعد للدوس على كل شيء وديدنه في ذلك أن“ لا قيمة للقيم ”ضمن عالم تحكمه حتمية مطلقة وإنسان توجهه عدمية مطبقة .
وانتهى هذا المسار التطوري إلى تشظي الوعي الغربي بفعل الصراع التنافس بين عناصره، وانفجار حربين عالميتين مزقتا العالم، وتم خلالهما التفنن في شتى أشكال القتل والتعذيب والتدمير، ليبرز بعدهما وعي غربي جديد وعي لم تتغير أهدافه وغاياته العميقة، ولكن تغيرت آلياته ومناهجه في تحقيق هذه الأهداف وأبرز هذه السبل المستحدثة تلك الظاهرة أو العملية التي أخذت تحفر مجراها في التاريخ البشري بقوة، والتي تعددت مسمياتها كالغربنة والأمركة والكوكبة والعولمة .
ولئن اختلفت التسميات فالمسمى واحد، وهو سعي الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية لفرض رؤيته ومعاييره الثقافية على باقي الشعوب، معمما نمطه الخاص في التفكير والسلوك لدعم هيمنته الثقافية في ظل هيمنته الاقتصادية المتجلية في احتكاره لرؤوس الأموال والأسواق التجارية وسائل الإنتاج بفضل كبريات الشركات العالمية العابرة للقارات، وهذا ما يؤدي حتما إلى تجريد الإنسانية من التنوع الثقافي والتعدد الحضاري اللذين تستمد منهما أسباب وجود وعطاء الخصوصيات والجماعات البشرية .
وتاريخيا ارتبطت الدعوة إلى العولمة بجملة من الأحداث العالمية الكبرى، انهيار الاتحاد السوفياتي وتحول الجمهوريات الاشتراكية المنفصلة عنه إلى تحرير أسواقها، سقوط برلين، نهاية الحرب الباردة وزوال الثنائية القطبية ...الخ، وهكذا أصبحت الـ: و.م.أ ومعها أوروبا، قوى عظمى مسيطرة على عالم يزداد تقلصا حتى صار ينعت بالقرية الصغيرة بفعل انتشار وتطور وسائل الإعلام والاتصال، فكان لابد من إعادة ترتيب البيت العالمي، وفقا لرؤية القطب المنتصر وقيمه وأفكاره بما يخدم غاياته.
ولئن حملت العولمة بعض الآثار الايجابية كتسهيل التواصل والاحتكاك وخلق فرص جديدة والتقريب بين الأشخاص والثقافات، إلا أن الغالب عليها أنها تعبير عن الاستعمار في طبعة جديدة مزيدة ومنقحة، بحيث أصبحت أقل وضوحا وأكثر فعالية في الهيمنة، ففي المجال الاقتصادي– وهو أبرز تجليات العولمة – تبدو العولمة اختراقا مشرعنا لاقتصادات الدول الضعيفة(دول الجنوب/ دول الأطراف)، من خلال الهيمنة على الأسواق، والتلاعب بالأسعار والبورصات، ثم استثمار ثقلها المالي والاقتصادي في المجال السياسي، بالتدخل في صناعة القرارات الحاسمة في الدول الضعيفة، وفرض نمط الحكم والتسيير الذي يخدم مصالحها بفضل التواطؤ الخفي بين المسؤولين على تدبير شؤون دول الجنوب وقوى العولمة الاقتصادية.
فالعولمة تعمل على تفكيك الدول الوطنية وجعلها تفقد سيادتها، يقول أحد الباحثين الغربيين المناهضين لقوى العولمة:«عملية العولمة تسرع من زوال سحر الدولة بشكل كبير، فقد خسرت كثيرا من مكانتها ودورها القيادي المطلوب»، ففي ظل العولمة لم يعد هناك معنى كبير للحدود السياسية للدول ولا لسياداتها ولا لأنظمتها وتشريعاتها، لأن شرطي العالم بإمكانه التدخل حيثما شاء وبالطريقة التي يراها مناسبة .
أما على المستوى الثقافي، وهو الأكثر أهمية لنا في هذا البحث، فهناك من يذهب إلى أن العولمة، فعل اغتصاب ثقافي وعدوان رمزي على سائر الثقافات بواسطة استثمار مكتسبات العلوم والثقافة في ميدان الاتصال. وتبعا لنظرية المركز والأطراف، فهناك ثقافة مهيمنة، وثقافة مهيمن عليها وهذه الأخيرة آيلة للتقلص والانكماش حتى التلاشي والاضمحلال .
ومجمل القول أن العولمة هي عملية سوقنة للعالم وسلعنة لكل شيء، وتتداخل في ذلك الجوانب الاقتصادية، السياسية، الاجتماعية والثقافية، حتى قيل إن العولمة تمتطى القطار الاقتصادي وتعبئ عرباته بالسياسة والثقافة والتربية والاجتماع، والهدف الأسمى هو بقاء المهيمن مهيمنا وغيره مهيمنا عليه، مع العمل دوما على تطوير استراتيجيات وآليات تكريس هذه الثنائية وتأبيدها في شكل يجعلها غير مرئية ولكن جد فعالة، يقول الداعية يوسف القرضاوي في هذا السياق:«إن العولمة كما تطرح اليوم(..)الاستعمار القديم بوجه جديد واسم جديد، إن الاستعمار يغير لونه كالحرباء، ويغير جلده كالثعبان، ويغير وجهه كالممثل، ويغير اسمه كالمحتال، ولكنه هو هو، وإن غير شكله وبدل اسمه ».
وقد دأب المستعمر الغربي منذ أن وطأت قدماه أرض مستعمراته على تبني كل ما من شأنه تدعيم بقائه، ومن بين الاستراتيجيات الفعالة في هذه العملية ما تعبر عنه المقولة التي أصبحت تردد كمثل شعبي“ فرق تسد”، إذ عمل هذا المستدمر على تغذية الخلافات بين القبائل والإثنيات بخلق الشقاقات والصراعات والاستعادة الخبيثة لبعض الأمور التاريخية التي تكرس الفرقة والنزاع، حتى يتمكن من فرض هيمنته عليها والأمثلة على ذلك كثيرة ومتنوعة، ووظف في إحكام سيطرته ترسانته العلمية والمعرفية، فكان ينظر للجماعات على أنها بنى مكونة من عناصر/ قبائل وإثنيات، مرتبطة فيما بينها بعلاقات قد تكون دينية أو لغوية أو عرفية ...الخ، ويكفي التدخل على مستوى العلاقة بإحداث خلل فيها حتى يتم الاقتتال والتآكل الداخلي بين أفراد تلك الجماعات داخل داخل البنية الواحدة، أو بين البنايات/الجماعات المتجاورة .
وتطويرا لمبدأ «فرق تسد»، استفاد العقل السياسي الغربي كثيرا من معطيات العلوم المعاصرة والثورات المعرفية التي عرفتها في شتى فروعها، أبدع العقل الاستعماري آليات واستراتيجيات جديدة للهيمنة، وهي آلية تشتغل على عمق أكبر مما يجعلها تطال العنصر في حد ذاته بالإضافة إلى البنية والعلاقة، وبدل تفكيك العلاقات بين العناصر داخل البنى، أصبح يقوم بتفتيت العناصر أو الأفراد في البنية الواحدة .
فمثلما هو الحال في عالم المادة، أين تحول مفهوم الذرة من كونها أصغر جزء مكون للمادة إلى عالم كبير فسيح يمكن اختراقه والتعرف على مكنوناته، يقول أحد العلماء«إن كلمات ومصطلحات من قبيل:ذرة، جوهر فرد، وجسيمات أولية، أصبحت تاريخية لا تحمل المعنى المراد منها لغويا في الفكر العلمي والفلسفي على حد السواء، فالجزء الذي قيل أنه لا يتجزأ، يواصل قابليته للانقسام، والجسيمات التي كانت أولية لم تعد حاليا أولية» .
الأمر نفسه في تعامل قوى الاستعمار والهيمنة مع الدول والمجتمعات الضعيفة، حيث ينطلق هذا التعامل من قابلية هذه المجتمعات للانقسام ويتم العمل على تمزيقها ثم تفتيتها، مثال ذلك ما يحدث في العراق وأفغانستان وفلسطين والسودان والبقية تأتي لا محالة إذا استمرت الأوضاع على حالها، حتى أن المرء ليذهل ويتعجب من مفارقة وحدة القضية الفلسطينية ووضوحها من جهة، في مقابل تعدد أو تشرذم الحركات والفصائل والميليشيات الفلسطينية من جهة أخرى .
وهكذا تحولت آلية الهيمنة من« فرق تسد» إلى« فتت تسد »، وفي هذه العملية الثانية تأثير كبير على مفهوم الهوية إن لم يكن القضاء نهائيا عليه، فالعولمة كما يقول القرضاوي تريد أن تسلخنا من جلدنا وأن تنزعنا من هويتنا أو تنزع هويتنا منا، والهدف النهائي إبقائنا على الحال التي نحن عليها من الوهن الحضاري الذي يجعلنا نبدو مجتمعات هشة سريعة الانكسار سهلة الاختراق، مستسلمة لإرادات التفكيك والتفتيت والهيمنة.

ثانيا: الهوية المبنية أو الهوية كملجأ:
تعد مقولة الهوية موضوعا للتفكير الفلسفي منذ أقدم العصور إلى الآن، وتداخلت مقاربتها مع مفاهيم عديدة كالجوهر، الماهية، الإنية، الذات، وغيرها، كما عرفت إشكالية الهوية وما يرتبط بها من مواضيع حضورا متجددا في الخطاب الفلسفي منذ لحظة سقراط ومقولته«اعرف نفسه»إلى لحظة ديكارت وإعلانه لمبدأ الكوجيتو، وصولا إلى الفلسفات الوجودية التي قاربت الإشكالية من منظور أسبقية الوجود على الماهية، دون أن ننسى إسهامات المفكرين المسلمين في بحث موضوع الهوية لاسيما ابن سينا الذي ابتكر مفهوم الإنية، المفهوم الذي استعاده مولود قاسم بعد أن طعمه بمفهوم الجوانية لعثمان أمين المستفيد بدوره من الفلسفة الحيوية لهنري برغسون.
والحقيقة أنه لا سبيل لحصر إسهامات كل الفلاسفة عبر العصور في مقاربة موضوع الهوية بل إن الأمر يزداد استعصاء في الفترة المعاصرة أين أصبح الموضوع محل مناقشات داخل العديد من العلوم الإنسانية والاجتماعية كعلم النفس وعلم الاجتماع الأنثروبولوجيا وغيرها.
رغم الحضور المكثف لهذا الموضوع في مختلف الخطابات العامية، العلمية والإعلامية والفكرية، إلا أنه من الصعب تحديد مدلول دقيق، نهائي وحاسم لمقولة الهوية، وسبب الاستعصاء حسب أحد الباحثين هو«أن الهوية في حد ذاتها تعريف ولا جدوى من تعريف التعريف، أي تقديم تعريفين، إذ أن الثاني يصبح هو التعريف والأول إما ناقص أو مرفوض».
لذلك سنوجه اهتمامنا لموضوع الهوية من خلال علاقتها بالثقافة واللغة والدين والدولة والمجتمع في السياقات العربية الإسلامية مع وقفة مع إشكالية الهوية في الوضع الجزائري كحالة لها شيء من الخصوصية، من منطلق ارتباط مفهوم الهوية ارتباطا عضويا بهذه المفاهيم ولا يمكن الحديث عن أحد هذه المفاهيم إلا باستحضار المفاهيم الأخرى، فهناك تداخل وتبادل للتأثيرات فيما بينها في المجتمع وعبر التاريخ.
وبالعودة إلى تاريخنا المعاصر، أي منذ استعادتنا لاستقلالنا- ولو بنسب متفاوتة- فإننا نلاحظ أن العناصر المكونة للهوية، والتي اشتغل الاستعمار على طمسها وزرع الخلافات والصراعات حولها، استطاعت أن تلتئم مجددا– ولو مؤقتا – حيث كانت شعارات فعالة لحركات التحرر، ثم أصبحت إلى أيديولوجيا التف حولها الخطاب السياسي للدولة الفتية حديثة العهد باسترجاع السيادة، «وقد نجح نموذج الدولة- الأمة في التوحيد الثقافي ضمن هوية مركزية ذات أرضية مرعية مقبولة، على الأقل من أغلبية المنتمين للدولة–الأمة ».
فالدولة الوطنية الحديثة، وبحكم ضرورات بناء الوطن وحماية الاستقلال والاستقرار نظرت لمفهوم الهوية على أنه تركيب هدفه إحلال وحدة التصورات والقيم محل التشتت والتمزق والفرقة، وتحول مفهوم الهوية إلى ملجأ ينبغي الهروع إليه والالتفاف حوله اتقاء شر الغزو الثقافي للأخر، واتقاء شر بعض الأنا المنظور إليه على أنه عميل لهذا الآخر، والتاريخ يشهد أنه في كثير من المرات ترمى شتى أشكال الاحتجاج والمعارضة بالعمالة والخيانة والتآمر مع قوى معادية للوطن هدفها النيل من الهوية الوطنية والرأسمال الرمزي للأمة بتعبير بيار بورديو.
فكانت السلطة القائمة تعمل دوما على احتكار الحديث عن الهوية موظفة شتى أدواتها الفعالة(إعلام، دعاية، عنف مادي، عنف رمزي...)محولة عناصر الهوية إلى رأسمال رمزي بيدها، ومن ثم يكون لها حق المساءلة والاتهام لمعارضيها، وفي الوقت ذاته يكون لها حق منع الآخرين من أشكلة أو اختراق هذا الرأسمال أو حتى الاقتراب منه.
هكذا فقد تم تصور الهوية والتعامل معها باعتبارها مفهوما جاهزا، معلبا، محنطا، عناصره معروفة بدقة ويمكن الإشارة إليه، لتكون مهمة النظام السياسي مقتصرة على توزيع الهوية/ السلعة على المواطنين، من خلال ضخ عناصرها عبر وسائل الإعلام، ومهمة المواطنين استقبال هذا النموذج دون تبرير ودون تساؤل عن ماهيته.
وإذا كانت هذه الممارسة ضرورية ومشروعة إلى حد ما، غداة استرجاع السيادة وبداية تشكيل الدول الوطنية الحديثة، إلا أن هذه الضرورة أخذت تضعف وتتناقص تدريجيا بعد انتهاء أفراح الاستقلال، وظهور مؤشرات جديدة، وعوائق اقتصادية، واجتماعية بسبب النمو الديمغرافي وتفاقم مشاكل السكن والشغل من جهة، وتطور الوعي الفردي والاجتماعي بانتشار التعليم ووسائل الاتصال والتعرف على ما تتمتع به المجتمعات المتقدمة من رفاهية وحرية من جهة أخرى، فظهرت مطالب شعبية كثيرة تواجه الأنظمة السياسية القائمة، كالحرية والتعددية والعدالة وما إلى ذلك.
كلها مطالب عجزت الأيديولوجيا السياسية القائمة الموجهة لهذه الأنظمة على توفير الحد الأدنى منها، لذلك فقد شهد الثلث الأخير من القرن الماضي الكثير من الأحداث الدالة على«انفجار الهوية المركزية وانشطارها إلى هوايات جزئية غالبا ما تنتمي إلى ثقافات فرعية تغلب عاملا واحدا أو عدة عوامل تبنى عليها هوية منفصلة واحتجاجية».
ويمكن تفسير هذه العملية بالعودة إلى آلية تطور العلم وكيفية انبثاق النظريات الجديدة التي نظر لها الإسبتمولوجي الأمريكي توماس كوهن، في كتابه«بنية الثورات العلمية»، فالنظرية الجديدة تكون ناتجة عن أزمة النموذج أو الباراديغم القديم وعدم استطاعته الإجابة عن المشكلات المطروحة أو المستجدة، وهي نفس الوضعية التي نعيشها الآن على مستوى مفهوم الهوية، فالمفهوم السابق للهوية المركزية أصبح عاجزا عن حل مشكلات الحاضر، وغير كاف لإقناع كل الأصوات، ومن ثم لا بد من انبثاق مفهوم جديد للهوية، يكون قادرا على إقناع الجماهير الغاضبة المحتجة، التي تشعر بظلم طال أمده، يقول محمد أركون حول ضرورة الاستماع لهذه الجماهير والوعي بمشروعية مطالبها:« إن العاطفة القومية نبيلة ومشروعة، ولكن بشرط ألا تتحول إلى احتقار أو نفي للآخرين أو حتى محاولة طمسهم وسحقهم سياسيا وإنسانيا، فالكردي في المشرق العربي يحق له أيضا أن يفتخر بقوميته وبلغته وأصالته، وقس على ذلك الأمازيغي في المغرب الكبير وبالتالي إن التطرف القومي هو المدان وليست العاطفة القومية السلمية ذات النزعة الإنسانية والمنفتحة على الآخر، وقل الأمر ذاته عن الدين(..)عندما يسود التعصب والانغلاق تختفي النزعة الإنسانية وتموت».
والوضعية المتأزمة التي نعيشها ليست ناتجة عن ضعف نموذج الدولة-الأمة فحسب، بل هي انعكاس أيضا لإستراتيجية التفكيك والتفتيت التي تمارسها العولمة وقواها الاقتصادية والسياسية، مثل دعوات الديمقراطية، وحماية الأقليات، والهويات المرنة وغير ذلك من المفاهيم الجديدة التي هي في تعارض تام مع المفاهيم التي انبنت عليها الدولة الوطنية، هذه الدولة التي اشتغلت ومارست مهامها من خلال تحالف الحزب الواحد مع اللغة الرسمية والدين الرسمي، مستبعدة كل أشكال المعارضة السياسية والتعددية اللغوية والعقائدية.

ثالثا: الهوية مشروع لا يكتمل
خلصنا من خلال توصيف الراهن المحلي والعالمي، وانعكاساته على مستوى مفهوم الهوية إلى أنه لابد من إحداث تغيير جذري على مستوى فهمنا وتعاطينا مع هذا المفهوم، والاستحضار الواعي والنقدي للعناصر التي ينظر لها على أنها مقومات الهوية وثوابت الأمة كاللغة، الدين، العرق، التاريخ...، يبين لنا أن هذا الثبات الذي توصف به يعد في حقيقته تعمية وحجبا للتاريخية التي حكمت وتحكم هذه العناصر في انعكاسها أو ترجمتها على أرض الواقع والعيش عليها إن صح التعبير، فكثافة الواقع وتعقيده يجعل الحديث عن ثبات هذه العناصر أمرا مردودا على القائلين به، لأن هذه العناصر تعد بعدا مضافا إلى جدلية بثلاثة أبعاد، الفكر، التاريخ والواقع، ومن ثم فإن فهم وتصور هذه العناصر يتغير تبعا للواقع الاجتماعي عبر التاريخ.
هذه الجدلية تفرض علينا الاستعاضة عن مفهوم الهوية المبنية بـ: مفهوم الهوية المشروع، الذي يبنى في الزمان، في المستقبل، والذي يمكن تعديله ونقده باستمرار، فهوية الشيء كما يقول محمد عمارة: «هي ثوابته التي تتجدد ولا تتغير، تتجلى وتفصح عن ذاتها دون أن تخلي مكانها لغيرها»، ومن ثم فهي ليست رفضا للآخر، بقدر ما هي تأكيد للذات، وليست حاجزا أمام التجديد التحديث، إنما هي خصوصية تسعى للتمايز دون تكبر، والتفتح دون شعور بالدونية أو النقص تجاه الآخر، بعبارة أخرى يمكن الحديث عن الهوية باعتبارها جهدا للذهاب نحو الآخر لاكتساب بطانة الذات، وعودة من الآخر نحو الذات لإثبات وجودها المتميز.
فالهوية هي لحظة شعور واع بالتميز عن الآخر، من جهة وعن الأنا/الماضي من جهة أخرى، ومن ثم تكون لحظة تأسيس الأنا المستقبلي، لأنها الأرضية التي يقف عليها المشروع الآتي، وعن هذا التصور المفتوح للهوية يقول محمود أمين العالم:«الهوية هي السمة الجوهرية العامة لثقافة مجتمع من المجتمعات، وأرى أنها ليست أقنوما ثابتا جاهزا نهائيا، وإنما هي مشروع مفتوح متطور في المستقبل أي متشابك متفاعل مع الواقع والتاريخ».
وفق هذا التصور تكون الهوية مشروعا ينجزه الإنسان في نفسه وفي مجتمعه من خلال تمثله لما يدعى بالثوابت الهووية، وفقا لإمكاناته وأهدافه ومتاحاته الفكرية والواقعية، فالهوية عملية وبناء يتشكل باستمرار في الزمكان، وله القابلية للامتلاء دون ارتواء، وهي تشكيل متنوع من الإرادات والانتماءات والتطلعات، ضمن وحدة تقبل التنوع وتنفتح على التعدد، لأن كل وحدة لا تقبل هذا التنوع ستؤدي إلى انفجار نزعات التعصب المغلقة مثلما حدث ويحدث في كثير من المجتمعات التي عانت من الأنظمة ذات الطابع الشمولي.
ومثلما هي الهوية وعي وانفتاح، فهي بنفس الدرجة عمل وكفاح، وإذا حاولنا مقاربة مشكلة الهوية الجزائرية مثلا، فإن المشكلة لا تكمن في معرفة هل نحن عرب، أم أمازيغ أم مسلمون...؟ ومن ثم تكون الإجابة بأن هويتنا هي العروبة والأمازيغية والإسلام، لأن إجابة كهذه تجاوزتها المعطيات الراهنة ولم تعد فعالة، إنما السؤال الحقيقي والجوهري هو: ماذا يعني أن نكون أمازيغيين أو عرب أو مسلمين؟ ماذا تضيف لنا هذه الانتماءات؟ وماذا قدمنا لها؟ كيف نفهمها؟ كيف نعيشها؟ كيف نحميها وكيف نطورها؟ وكيف نطور أنفسنا بها؟.
ويكون الجواب عن هذه الحزمة من الأسئلة، هو أن الانتماء لهذه العناصر يحملنا مسؤولية أكبر، مسؤولية فهم جوهر هذه العناصر ووعيه ثم مسؤولية العمل على إبرازها وتجسيدها على أحسن وأكمل وجه ممكن.
وواقع حالنا يقول العكس تماما، فنحن نساعد بصورة مباشرة أو غير مباشرة، في طمس حقيقة هذه العناصر وتشويهها، والأمثلة كثيرة لا تعد ولا تحصى، فدسترة الأمازيغية والإقرار بالبعد الأمازيغي للهوية الوطنية لم يرافقه عمل ولا بحث في إبراز هذا البعد واجتثاث كل ما يسهم في تحسين معرفتنا من غياهب التاريخ، أننا نقيم مهرجانات عظيمة لمدن تيمقاد، جميلة وغيرها، وننسى أن بناة هذه المدن(الرومان) هو مفتتوا الشعب الأمازيغي، ونحتفي بالقديس أوغسطين دون القديس دونا الذي كان في صف البؤساء من هذا الشعب...، ونفس الوضعية تنسحب على ترسيم اللغة العربية في المواثيق والدساتير، وفرنسة الإدارة في الواقع، أما بالنسبة للإسلام الذي لا تتوالي الألسنة في التصريح بأن «الإسلام هو الحل»، الواقع يتحدث لغة غير هذه، فهذا الإسلام الذي هو الحل لم نعد نستطيع إدراك معالمه في ظل تكاثر المذهبيات المستحدثة وتنافرها والتفكير المتبادل فيما بينها، كل هذا يحدث في مجتمع الأمية فيه ضاربة أطنابها ومستفحلة أيما استفحال.

بمثابة خاتمة:
إن الخروج من هذه الوضعية الإشكالية التي تؤطر موضوع الهوية في الراهن الجزائري والعربي الإسلامي عموما، يتطلب القيام بزحزحتين مهمتين للإشكالية:
- الزحزحة الأولى: وتتمثل في ضرورة إعادة طرح إشكالية الهوية وبحث عناصرها وطبيعتها، ولكن في إطار ثقافي بدل الإطار السياسي الذي طرحت فيه أول الأمر وأدى إلى انفجار الهوية المركزية، فالطرح الثقافي لإشكالية الهوية يفيدنا في إنتاج خطاب جديد، يكون هذه المرة خطابا في الهوية، بدل الخطاب السابق الذي كان خطابا عن الهوية، وشتان بين الخطابين، ومن جهة أخرى فإن هذه الزحزحة تسمح بتفعيل دور المثقف الذي ينبغي عليه تحمل كافة مسؤولياته في الوقوف حاجزا أمام كل الألاعيب السلطوية، التي تعيد إنتاج الممارسات السابقة والمتمثلة في احتكار الحديث عن الهوية وتسويق تصورات جاهزة، معلبة مبنية لهذه الهوية، وأن يعمل على وضع معالم وأسس في تأسيس وبناء الهوية كمشروع مفتوح.
- الزحزحة الثانية: وتخص طريقة إنتاج المثقف للمعرفة وكيفية تقديمه لمعالم هذا المشروع المستقبلي، ويتعلق الأمر هنا بضرورة التخلي عن لغة الخلاص ولعب دور البطل المنقذ، وممارسة دور الوصاية على الجماهير، والتخلي عن تلك المشاريع الطوباوية، التي تبرر فشلها في تحقيق أهدافها بجهل الجماهير وعدم قدرتها غلى فهمها واستيعابها ثم تجسيدها في أرض الواقع، فهذه التبريرات لم تعد مجدية، لأن أول أبجديات التفكير العلمي المنتج والفعال في التغيير، هي الإنصات لصوت الواقع الذي يمثل الموضوع، والمنطلق الحقيقي للباحث أو المثقف من أجل معالجات ناجعة للمشكلات الجزئية الموجودة في الواقع.
ينبغي إذن الإنصات لأفراد المجتمع بمختلف فئاته ومعرفة مشاكلهم اليومية ومساعدتهم على تجاوزها، فالخروج من الحالة الإشكالية عمل متكامل بين النخبة المثقفة والجماهير، في ظل وجود إرادة سياسية مساعدة على تجسيد الرؤى في أرض الواقع، أما إذا بقي حالنا على ما هو عليه من الجمود و الخمود و الركود فسوف يكون كل حديث عن/أو في الهوية، غير ذا جدوى، لأن حالة كهذه لا تملك مفاتيح مستقبلها حتى تستطيع بناءه.
الهوامش:




نشر في الموقع بتاريخ : الأربعاء 3 صفر 1433هـ الموافق لـ : 2011-12-28