الاثنين، 10 أكتوبر 2011

في الأدب الإسلامي

مع الأدب الإسلامي الحديث
د. نجيب الكيلاني

من الواضح أنّه لا يوجد أديب عربي واحد التزم منهجاً إسلامياً محدداً فيما ينتج من أدب القصة أو المسرحية أو الشعر. وإن كان لبعض أدبائنا جزء من أدبهم صدر عن شعور إسلامي، غير أنّ إقبال شاعر الإسلام وفيلسوفه الكبير وصاحب فكرة إنشاء دولة باكستان الإسلامية، هو أوّل أديب مسلم في العصر الحديث استطاع أن يستلهم الإسلام في وضع فلسفته المشهورة "فلسفة الذات" أو "خودي"، وكان شعره وعاء لهذه الفلسفة التي آمن بها، ودعا إليها في صدق وحرارة، ولم يحظ شاعر أو فيلسوف مسلم بشهرة تضارع شهرة شاعرنا الكبير في هذا العصر، وقد أفردنا لهذا الشعر كتاباً صدر منذ سنوات بعنوان (إقبال.. الشاعر الثائر)، تحدّثنا فيه عن شعره وفلسفته ومنهجه الفني. ومن الواجب أن يحظى إقبال بمزيد من الدراسة، وأن تحظى فلسفته بمزيد من الشيوع والفهم، وهذا أمر بديهي بالنسبة لقمة من قمم الفكر الإسلامي.
نقول إنّ أدباء العربية ليس فيهم أديب واحد نستطيع أن نعتبره ممثلاً لإتجاه الإسلامية في الأدب في معظم إنتاجه، فمثلاً شوقي أمير الشعراء له عديد من القصائد في المناسبات الإسلامية المختلفة كالهجرة والمولد النبوي، وله نهج البردة الشهيرة، وهمزيته الرائعة، وله بعض القصائد التي تترجم عن حياتنا الإجتماعية والسياسية ومشاكلها، وهذه بدورها لا تخرج عن صبغتها الإسلامية، لأن مشاكل المجتمع وأحداثه الكفاحية جزء من العقيدة الشاملة المسيطرة – أو المفروض أن تكون مسيطرة – على حياتنا في شعبها المختلفة. وقد أفرد بعض مؤرخي الأدب مؤلفات عدّة عن شوقي، منها (شوقي وشعره الإسلامي)، ومنها (الدين والأخلاق في شعر شوقي).
وكان شوقي (رحمه الله) ينظر إلى أيام الإسلام الأولى نظرة إحترام وتقدير بالغين، وينظر إلى مبادئه العالية نظرة المؤمن بها، الواثق فيها كل الوثوق، ويترنم بأروع الشعر إذا ما تناولها، ويدعو الناس إلى التمسك بأهدابها، والنهج على سننها، وفي قصائده الأخرى كان ينتزع تشبيهاته عن السيرة الإسلامية، ويتخذ من أبطالها نماذج للقدوة، فإذا ما وصف أحداً بالشجاعة، فهو شجاع مثل خالد، وإذا ما ذكر العدالة والتقوى والورع، تمثل بعمر بن الخطاب، وهكذا.. لكن شوقي لم يكن كإقبال، فإقبال فيلسوف قبل أن يكون شاعراً، ولفلسفته سمات وملامح وشخصية مميزة، عبّر عنها شعراً ونثراً، ولم يخرج عنها، وشوقي شاعر وليس فيلسوفاً، وشعوره الإسلامي شعور رجل مسلم دارس لأمجاد الإسلام وتراثه، معجب ببطولته وأيّامه الخالدة، ومبادئه السامية إعجاب شاعر، وفي اعتقادي أنّ شوقي كان أعظم شعراء عصره تحدثاً بأمجاد الإسلام ومبادئه، ولم يكن ينقصه غير التخطيط الفكري، أو البناء الفلسفي الذي يصدر عنه كما فعل شاعرنا الكبير محمد إقبال.
وقد لوحظ انّ موضوعات شوقي الإسلامية، تقترب من الموضوعات التي أثارها غيره من الكُتّاب، فقد انبرى طائفة للرد على اتهامات المستشرقين، وترهات المتحللين، فنجد في شعره – كما في كتابات محمد حسين هيكل، والعقاد، وغيرهما – تعرضاً لمشكلة الحرب في الإسلام، وهل الإسلام دين سيف؟ وهل إسراء الرسول كان بالروح أم بالجسد؟ إلخ.
يقول شوقي:
الحرب في حق لديك شريعة*****ومن السموم الناقعات دواءُ
ويقول في موضع آخر:
يتساءلون وأنت أشرف مرسل*****بالروح أم بالهيكل الإسراء؟
ويظل شوقي يجيب على هذه الأسئلة المعروفة، متخذاً من شعره منبراً لإعلاء كلمة الإسلام، مدافعاً عنه، مفسِّراً لأحداثها، في تعبير شعري رقيق خال من تعمق الفلسفة ومنهجها.
يقول عن الرسول (ص):
وكان بيانه للهدي سبلا*****وكانت خيله للحق غابا
وعلَّمنا بناء المجد حتى*****أخذنا إمرة الأرض اغتصابا
وما نيل المطالب بالتمني*****ولكن تؤخذ الدنيا غلابا
وما استعصى على قوم منال*****إذا الإقدام كان لهم ركابا
ولم تكن هذه الأشعار – في المقطوعة السابقة مثلاً – مجرد مديح في الرسول وتغن بمبادئه وأثره الخالد في حياة البشر، بل كان ينتهز فرصة مديحه (ص)، ويحاول أن يوقظ شعبه النائم الرازح تحت نير العبودية والإستعمار، رابطاً المفاهيم الدينية بقضايا النضال واليقظة والتحرر، باثاً فيهم معاني القوة والثورة والطموح في قلوبهم، بل كان يربط هذه المعاني الإسلامية بالقضايا الإجتماعية في وقت مبكر.
أما تراه يقول عن الرسول (ص) في همزيته الرائعة:
الإشتراكيون أنت إمامهم*****لولا دعاوى القوم والغلواءُ
ويقول:
أنصفت أهل الفقر من أهل الغنى*****فالكل في حق الحياة سواءُ
ويقول:
الله فوق الخلق فيها وحده*****والناس تحت لوائها أكفاءُ
ولقد وفق شوقي أيّما توفيق وهو يتغنّى بهذه الفضائل، ويستلهم المبادئ الإسلامية ويجلوها، وهو يشارك بقلمه في قضايا شعبه السياسية والإجتماعية والإقتصادية، كما كانت دعوته إلى الوحدة بين الشعوب العربية والإسلامية دعوة صادقة مخلصة، نبعت أوّلاً عن إيمانه بالخلافة العثمانية ودفاعه عنها في بادئ الأمر.. ولمّا انهارت الخلافة، لم يتخل عن الدعوة إلى هذه الوحدة، فإذا حرَّكه في بداية الأمر غرض سياسي، فقد دفعه إليها في نهاية المطاف شعور إسلامي واع.
ورغم ارتباط شوقي بالقصر الذي تربّى فيه، إلا أنّ الرجل - والحق يقال – لم يغفل جانب القضية الكبرى، قضية الشعب الذي
سعى إلى التحرر الداخلي والخارجي، فنراه ينعي على الطغيان، ويمجد الدستور والحرّية والنظام الشوري:
زمان الفرد يا فرعون ولّى*****ودالت دولة المتجبرينا
وأصبحت الرعاة بكل أرض*****على حكم الرعية نازلينا
* * *
فوأد أجل بالدستور دنيا*****وأشرف منك بالإسلام دينا
ويقول في مكان آخر:
والدين يسر، والخلافة بيعة*****والأمر شورى والحقوق قضاءُ
أجل.. إنّ مكانة شعر شوقي الإسلامي مكانة سامقة في عالم الأدب العربي، هذا إلى جانب إدخاله الشعر التمثيلي لأوّل مرّة في تاريخنا الأدبي، ومهما قيل عن ارتباطه بالقصر وإخلاصه له، فإنّ هذا لن يغض من روائعه الإسلامية، وقريحته اللماحة، وغيرته الفائقة على هذا الدين ومستقبله ومستقبل أبنائه.
* * *
أمّا أحمد محرم، فقد حاول أن يقدم ملحمة إسلامية، تتحدّث عن معارك الإسلام الكبرى، وأحداثه التي غيّرت مجرى التاريخ، وتغنى في حرارة وصدق بالمثل الإسلامية، والفضائل العظيمة التي تبرز في كل سطر من سطور كتاب الإسلام الضخم، ولعله كان أكثر شعرائنا المحدثين انكباباً على هذا الموضوع، وتحمساً له وتفانياً فيه، وإن كان دونهم في مجال الإبداع الفني.
* * *
أمّا مصطفى صادق الرافعي، فقد كان مجيئه ظاهرة أدبية ملفتة للنظر، لقد كان ظهوره إبان النهضة الأدبية الكبرى التي تزعمها طه حسين والعقاد والمازني وشكري وهيكل ومطران وشوقي وحافظ ولطفي السيد وغيرهم، كان تيار التجديد دفاقاً مندفعاً، وكانت هناك دعوات غريبة للغض من القيم الدينية، والتراث العربي الأصيل، وتحريض للمثقفين على الإندفاع نحو الغرب والنهل من ثقافته، والنسج على منواله دون تحفظ أو تبصر، هذا من جانب.
ومن جانب آخر، برز الرافعي متحدياً صارخاً في وجه الإندفاع الأعمى نحو كل ما هو غربي، لقد مثل الرافعي دوراً كان لابدّ أن يمثله، دافع عن القديم، وثار من أجل اللغة والدين والقيم العريقة، واستمسك بأسلوب العربية الفصحى وإن أغرب في اللفظ، أو بدا التعقيد في بعض تعبيراته. لم يكن غريباً أن يتطرّف الرافعي وهو يرى طائفة من المفكِّرين يدعون إلى اعتبار العامية لغة للكتابة، وطائفة أخرى تدعو إلى كتابة العربية بالأحرف اللاتينية، وثالثة تأخذ على الدين جمود رجاله، وتوقف نمو فقهه وأحكامه، لقد اعتبرها الرافعي معركة مقدسة، واعتبر أدنى تفريط فيها جناية كبرى، ومن ثمّ حميت المعركة بينه وبين غيره من النقاد أمثال طه حسين والعقاد.
وعلى الرغم من كل ما يقال في حق الرافعي، وفي أسلوبه المعقد، وفي آرائه الغريبة، إلا أنه ممّا لا شك فيه قد أدّى دوراً كبيراً يتفق مع معتقداته وثقافته وظروف عصره. ففي مقالاته التي كتبها في (وحي القلم)، تظهر براعته الفنية ككاتب قدير. فكتابه (وحي القلم) بالذات واضح مفهوم، وموضوعاته التي عالجها فيه محددة بينة المقاصد، وهي تجمع بين القصص الهادفة، والمقالات الإجتماعية والسياسية العميقة، والدراسات النقدية والإسلامية المفيدة. وعلى الرغم من أن قصصه لم تتبع المفهوم الحديث لفن القصة تماماً، إلا أنّها ذات دلالة توحي بأنّ الرجل لم يكن منعزلاً عن عصره، بعيداً عن أحداث المجتمع كما يزعم البعض، بل انفعل بكل القضايا والحركات الفكرية المعاصرة، وليس أدل على ذلك من تلك المعارك الحامية الوطيس التي نشبت بينه وبين معاصريه، وتلك الصحف والمجلات التي فتحت له صدرها، وهؤلاء التلامذة العديدون الذين آزروه، وتتلمّذوا عليه، وآمنوا بطريقته.
وفي اعتقادي أنّ كتاب (وحي القلم) بأجزائه كلّها تعبير صادق عن وجهة نظرنا، ولقد كان الرجل محافظاً على القيم الأخلاقية والعقيدية فيما يكتب، ولعل محافظته وتشبثه بهذه القيم هو الذي دعا مخالفيه في الرأي لأن يرموه بالجمود والرجعية. وربّما كان كتابه (المساكين) أقل وضوحاً من (وحي القلم)، لكنه لم يخرج عن خطته الأخلاقية ومنهجه الفني. لكن الغموض يبدو أكثر في كتابه (أوراق الورد) و(حديث القمر) و(السحاب الأحمر)، وهي تعالج موضوعات عاطفية، وتتعمّق في النفس والوجدان، وتصور خلجات الأعماق، ونزعاتها وانتفاضتها الهامسة الغامضة. ورغم غموضها بعض الشيء، إلا أنّ هذه الكتب الثلاثة لم يسبقها شبيه لها في أدبنا العربي على ما أعرف، وأظن أنّ الرافعي أوّل أديب عربي استطاع أن يفلسف الحب وما يخالطه من مشاعر ويغوص إلى أعماق النفس، ويحلل فورانها بطريقة لم يسبقه بها أحد. كان واحداً بلا شك بين رواد النفس الإنسانية في أدبنا العربي وما أقلهم.. ولن يعيبه غموضه فسوف تكفيه أصالته وذكاؤه وغوصه في أعماق الإنسان، وذلك العالم الكبير العصي على الفهم والإدراك. أمّا كتاباته في إعجاز القرآن أو تحت راية القرآن، فقد كانت محاولة جادة وأصيلة في إبراز القيم الفنية والأدبية لكتاب الله.. لا تنقصها الحرارة التي عرف بها الرافعي، ولا الغيرة الدينية التي لم تخفت حدتها طول حياته.
ولشعره رقة وعمق.. لم يكن جافاً بارداً كما زعم خصومه، ولم يخل من المضمون الأصيل كما ادّعوا، وتحضرني هذه الأبيات التي يصور فيها حبّاً حزيناً دامعاً، فيخفق لها قلبي، وأشعر معه بالأسى واللوعة:
مَن للمحب ومَن يعينه*****والحب أهنؤه حزينه
أنا ما عرفت سوى قساوته*****فقولوا كيف لينه؟
إنّ الرافعي لم يزل في حاجة إلى الدراسة والبحث، وتراثه الأدبي لم يزل في حاجة إلى تقييم حقيقي، ومكانته الأدبية، ونبل المشاعر التي حرّكته، وعنف المعارك التي خاضها لابدّ أن تفهم كما يجب.
 * *
وكان لأدب توفيق الحكيم نكهة حلوة، فيه سحر الشرق وجلاله، وفيه جمال الروح وأشواقها، فيه انتصار للقوى الروحية وتشبث بها، واهتمام بالمشاكل المجردة كالخير والشر والقضاء والقدر، ولقد انتزع الحكيم كثيراً من مادته الأدبية من التاريخ والأساطير مثل مسرحية (أهل الكهف) و(سليمان الحكيم) و(شهرزاد) و(بيجماليون) و(براسكا) و(أوديب ملكاً)... وغيرها.
وعلى الرغم من أنّ الحكيم انتصر للقوى الروحية ولم ينكر عالم ماوراء الطبيعة، إلا أنّه كان فناناً يضع نصب عينيه قداسة الفن وأُصوله، قبل كل شيء، غلب فنه على ما سواه وإن تشبع بفلسفة الشرق وارتوى من مناهله الروحية، وبهذا كان أخلص الفنانين المؤمنين بالقوى الروحية فناً وأداءً. وكانت مسرحيته (محمّد) لحناً رطباً يفيض رقة وسلاسة ويمتلئ بالصور الحيّة المتحركة في حياة الرسول (ص)، وبالسلوك الإلهي الرائع، ولا يعنينا هنا أن نتكلم عن تكنيكها ومدى مطابقتها للقواعد المسرحية، لأن ما نهتم به في هذا العرض السريع يتصل بالمضمون أكثر ممّا يتصل بالشكل.
وفي كتاباته الأخرى (عودة الروح) و(الرباط المقدس) و(يوميات نائب في الأرياف) و(الصفقة) و(مدرسة المغفلين)، يعالج الحكيم عدداً من قضايانا الإجتماعية المعاصرة، في ضوء فلسفته التي أفرد لها كتاباً، وهي فلسفة (التعادلية)، وفي ضوء آرائه في (الفن والأدب).
وقد ألحمنا من قبل إلى مسرحيته الأخيرة (السلطان الحائر)، وكيف أنّه استمدّ أحداثها من التاريخ الإسلامي، واتخذه مادة لتصوير الصراع الخالد بين السيف والقانون، ووقف ببطل المسرحية عندما أسماه بعض نقادنا موقف "الإختيار الوجودي"، إذ يشعر السلطان بالحيرة وهو في حالة يستطيع معها أن يحكم السيف ويسخر من القانون، أو ينتصر للقانون، وينحي السيف بعيداً، لأنّ الحق فوق القوة، ولأنّ الحق منطق، ويتجلى تأثر الحكيم بالقيم الإسلامية حينما يجعل أساس المشكلة فتوى لقاض من العلماء المسلمين، تتهم الحاكم بأنّه ليس حرّاً، والعبد لا تحق له طاعة إلا إذا أعتق..
ورغم ما أصاب تصوير شخصية القاضي من بعض الإضطراب والتخلي عن جزء من القضية التي وضع رقبته تحت رحمة السيف من أجلها، إلا أنّ مسرحية السلطان الحائر مثلاً رائعاً لما نُسمِّيه بالأدب الإسلامي، وما نُسمِّيه بـ"الإختيار الإسلامي" وليس "الإختيار الوجودي" كما زعم بعض النقّاد، فمادة القصة وفكرتها وشخصياتها ومضامينها الفكرية كلّها واقع إسلامي مستمد من التاريخ، ونهايتها انتصار للمثل والمبادئ على القوى المادية الغاشمة، وكم كنّا نود أن نستطرد في شرح المسرحية وتحليلها على هدى هذه المفاهيم لولا ضيق المقام.
وخلاصة القول: نقول إنّ الحكيم أديب شرقي مسلم متحرر متطرف في تحرره، لم يستطع أن يقرر في صراحة وضوح إيمانه بمبدأ الإلتزام إطلاقاً، وإن التزم في كثير من المواضع بفلسفته "التعادلية" التي شرحها وفصل بناءها في كتابه.
والحكيم إلى جانب ذلك رائد من رواد المسرح العربي، وأحد رجال الطليعة في القصة العربية ومفخرة من مفاخر أدبنا العربي الحديث، والحكيم فنان تظهر فيه ملامح الشرق وروحانيته، لا ملامح الإسلام وحدها إلا في أحيان قليلة.
* * *
أمّا علي باكثير مؤلف (وا إسلاماه)، فقد بدأ حياته دارساً للإسلام والفقه والحديث والتاريخ، أراد أن يكون عالماً مجتهداً من علماء الإسلام، وشاء الله أن يصبح أديباً من أدبائه، واستطاع باكثير أن يُصوِّر بعض صفحات التاريخ الإسلامي الخالد، ويُعبِّر عن نماذجه الفذة في قصته (وا إسلاماه)، حينما تعرّض الإسلام للغزو الصليبي والتتري، وحينما اتخذ شخصيات (ابن تيمية) و(العز بن عبدالسلام) وغيرهما نماذج إنسانية تشبعت بروح العقيدة وانتصر لها وبها.
وللأستاذ باكثير مسرحيات (دار ابن لقمان) عن الحروب الصليبية، و(إله إسرائيل) عن المشكلة اليهودية، و(الحاكم بأمر الله) و(جحا) و(شهرزاد) و(أوديب)، وله من القصص: (سيرة شجاع) على قرار (وا إسلاماه)، وله من المسرحيات الإجتماعية (الدنيا فوضى)... إلخ.
وكانت أغلب كتاباته مستمدة من التاريخ أو الأساطير القديمة، ومشى على نهج الحكيم في التفاته إلى بعض المشاكل الفلسفية المجردة، وإن لم يستطع اللحاق به في التفوق الفني الذي جعل الحكيم واحداً من كبار كُتّاب أدبنا ورواده، ولكن كان باكثير أكثر ارتباطاً واستمساكاً بالمبادئ الإسلامية ووجهة نظرها في الحياة، ومن ثمّ فإن أدبه جدير بدراسة عميقة وبتحديد صادق لقيمته الفنية والعقيدية.
* * *
هذه الجولة السريعة في الأدب الإسلامي الحديث، لم تستطع أن تستوعب كل ما ظهر منه، ولم تتناول كل كُتّابه، وخاصة أدباء الجيل الجديد، فالمجال هنا أضيق من أن يقوم بإحصائية شاملة لأدبنا الإسلامي الحديث، لكن ما قدّمناه مجرد أمثلة موجزة، وتعليقات سريعة، وأحكام عامة تحتاج لمزيد من العناية والدرس العميق المنظم، وأرجو أن تتاح فرصتها لي أو لغيري للقيام بها خدمة للفن والدين.
ولا يفوتني في هذا المقام أن أشير إلى تلك الألوان الفنية الرائعة التي قدّمها الدكتور طه حسين في كتبه: (على هامش السيرة) و(الوعد الحق) وغيرهما، وكانت هذه الألوان المميزة مزيجاً من الأدب والتاريخ، ليست بالقصة ولا بالمقالة ولا بالدراسة التاريخية على وجه الدقة، وإن اقتربت من هذه، أو اقتربت من تلك في بعض مواضعها، لكنها مع ذلك لون أدبي، ناصع البياض، مشرق اللمحات، واضح الأصالة.. ولابدّ من الإشارة أيضاً إلى إسهامه في تحديد بعض القيم النقدية في الأدب الحديث، وترجمة بعض الآثار العالمية إليه، والدعوة إلى التجديد وإحياء التراث، وإعادة النظر فيه والتطور به إلى مرحلة أنضج وأروع.
المصدر: كتاب الإسلامية والمذاهب الأدبية

الأربعاء، 15 سبتمبر 2010

حول المشكلات التأويلية للنصّ الأدبي الوافد


مجلة الموقف الأدبي - مجلة أدبية شهرية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق - العدد 398 حزيران 2004
حول المشكلات التأويلية للنصّ الأدبي الوافد
 أ.د.عبده عبّود- سورية
لماذا يحتاج العمل الأدبي إلى من يدخل بينه وبين متلقّيه مفسراً ومؤولاً؟ ألا يستطيع المتلقي أن يستغني عن ذلك الوسيط بأن يقرأ النص الأدبي، ويفهمه، ويفسره ويؤّله بنفسه؟ لماذا يحتاج القارئ إلى من يفسّر ويؤوّل له قصيدة للمتنبي أو أبي العلاء أو السيّاب، ورواية لنجيب محفوظ أو حنّا مينة أو الطيّب صالح؟ وقصة قصيرة ليوسف إدريس أو زكريا تامر؟‏
يرى الفيلسوف الألماني هانس ـ جيورج غادامر (H. G. Ganalamer) الذي يُعد أحد أباء علم التأويل الفلسفي المعاصر أنَّ الحاجة إلى هذا العلم تنبع من حال الغربة التي تنشأ بين العمل الأدبيّ وبين متلقيه.‏
فهذه الغربة تجعل فهم النص الأدبي عسيراً على المتلقي، مما يولد في نفسه امتعاضاً وعدم ارتياح، ويأتي الجهد التفسيري ليعيد الألفة إلى علاقة النص بالمتلقي، وذلك بأن يساعد الأخير في فهم النص، فتزول حال الغربة التي نشأت يبن الطرفين، ويزول مصدر عدم الارتياح الذي توّلد في نفس المتلقي نتيجة عدم تمكنه من فهم النص الأدبي. هذا هو أصل المسألة الهرمنوطيقية، ومنه يستمد علم التأويل مسوغاته ومشروعيته(1).‏
ولتلك الغربة في حالة النصوص الأدبية الوطنية مصدران رئيسيان: أوّلهما الفجوة التاريخية بين العمل الأدبي ومتلقيه. فللعمل الأدبي أفق تاريخي، وهو أفق العصر الذي أُنتج فيه. إن شعر المتنبي، على سبيل المثال، يعبّر عن زمن المتنبي وما ساده من ظروف سياسية واجتماعية وأدبية وثقافية.‏
ولكي نفهم شعر المتنبي لابدّ لنا من أن نسترجح ذلك الأفق التاريخي وأن نعيد بناءه، وهذا هو الشقّ الأول للجهد التفسيري. وعندما يقوم علم التأويل بذلك، فإنه يزيل قسماً من عدم الفهم والغربة اللذين يحسّ بهما المتلقي المعاصر حين يقرأ نصاً أدبياً قديماً كشعر المتنبي.‏
ولكنَّ الجهد التأويلي لا يقتصر على استرجاع الأفق التاريخي للنص الأدبي وإعادة بنائه. فالمتلقي شخص معاصر ذو أفق معاصر، لا يستطيع أن يتجرد منه، وأن يتلقى النصّ الأدبي ويفهمه انطلاقاً من أفقه التاريخي فحسب بل من المحتّم أن يدخل الأفق المعاصر في عملية التلقي وأن يؤثر فيها. إنّ النصّ الأدبي القديم يخاطبنا ويثير استجاباتنا لأنه يخاطب أفقنا المعاصر، فإن لم يكن قادراً على ذلك فإننا لا نتفاعل معه ولا نستمتع به ولا نستجيب له جمالياً وفكرياً. فعلمية التلقي تنطوي على تلاحم يتم بين أفقين: الأفق التاريخي للنص، والأفق المعاصر للمتلقي. لذا يكمن الشق الثاني من الجهد التفسيري في توضيح ذلك الأفق وتحليله. فلكي أعرف الآخر، أي النصّ الأدبي، لابدّ لي من أن أعرف نفسي باعتباري متلقياً لا ينطلق عند قيامه باستقبال ذلك النص من نقطة الصفر أو من بقعة بيضاء، بل من أفق معاصر.‏

المشهد الجنسي في الرواية العربية

المشهد الجنسي في الرواية العربية
الجزائر نيوز يوم:الجمعة.22.جانفي.2010

 ما يحدث في كثير من الكتابات الروائية العربية المعاصرة شبيه تماما بأغاني الفيديو كليب حيث لا يملك المغني فيها لا الصوت ولا الموهبة ولكنه يختفي  وراء الصورالجميلة للفتيات نصف العاريات والراقصات بأشكال وصور تجعل انتباه المشاهد للأغنية يلتصق بالصور المثيرة أكثر من اهتمامه بكلمات الأغنية ومعانيها أو صوت المغني الذي يستنجد ـ لأنه لا يمتلك صوتا جميلا ـ بتقنية تصفية الأصوات وقوة التوصيل الصوتي للمكروفونات الحديثة·

فهناك الكثير من الأعمال الروائية الحالية لا تعتمد في وصولها إلى القارئ إلّا على الإثارة والتهييج غير المرتبط بوظيفة الجنس داخل النص بحيث يعتمد على الجنس كوسيلة للوصول الى القارئ عبر مخاطبة غرائزه واللعب على أوتار كبته الجنسي في مجتمع لا يزال هذا الطابو يحكم وعيه ويقمع انسانيته، ويؤدي الكم الهائل للمشاهد الجنسية في بعض الروايات في الكثير من الأحيان إلى ابعاد القارئ على الموضوع الأساسي لهذه الأعمال، إن كان لها موضوع بالطبع·

ليس صحيحا بالتأكيد ان /النص الجنسي/ العربي المعاصر مستمد بالكامل من الثقافة الغربية ولعلّ موقفا كهذا سببه الجهل بالتراث وما امتلأ به من نصوص جنسية· فالتراث العربي يزخر بالكثير من الكتابات في هذا الميدان فمن أشعار امرئ القيس إلى أبي نواس وحكايات ألف ليلة وليلة والقصص الجنسية في كتاب الأغاني والروض العاطر··، وما كتبه الإمام السيوطي، وتحدثنا بعض الروايات عن بعض غلاة الخوارج أنهم كانوا ينظرون بريبة وتوجس إلى /سورة يوسف/ في القرآن الكريم لما فيها من إشارات جنسية···باختصار لم يكن العرب إبان قوتهم الثقافية والحضارية يتهيبون من الخوض في مثل هذه الموضوعات· وقد استخدم كبار الروائيين العرب كذلك المشاهد الجنسية في أعمالهم كنجيب محفوط  وحنا مينة وحيدر حيدر ورشيد بوجدرة وأمين الزاوي··ذلك أنه لا يعقل في تقديرنا أن يُكتب عمل فني يتناول حياة انسانية برمتها ويغضُّ الطرف عن الجزء الخاص بالرغبة وكأنها ليست من متطلبات النفس و الجسد والحياة· فالجنس جزء في السياق الطبيعي للحياة، ونحن حينما نكتب عن الحياة سنكتب عن الجنس لا محالة، فالأديب حينما يكتب يتناول العلاقة بين الرجل و المرأة كونها تأتي في سياق الحديث عن الإنسان نفسه· لذلك فإن النص الجيد سيثبت نفسه بغض النظر عن موضوعه وثيماته ، وعليه فقد لا يكون النص المتعفف الذي يتجنب المشاهد الجنسية نصا عظيما وأن يكون صاحبه كاتبا جيدا، وبالمقابل يسقط بالتأكيد النص الذي  يفضح تفاصيل جنسية كثيرة وهو لا يملك مقومات العمل الحقيقي ·فالملاحظ في الكثير من الأعمال الروائية الجديدة أن المشهد الجنسي فيها كثيرا ما يكون مقحما اقحاما من دون ان تكون هناك مبررات لهذا الاستخدام و قد تدلّ كثير من الكتابات على مراهقة  فكرية وفنية، فالجنس في الروايات العظيمة يخدم أهدافا انسانية ويعري زيف المجتمع ولا يكون من أغراضه المباشرة استثارة الغرائز، فليس هناك ما يمنع اطلاقا التطرق للجنس في الرواية على أن يكون توظيف المشهد في صالح العمل الأدبي بحيث يأتي انسيابيا ضمن أحداثه ووفق ما تقتضيه بنية النص·

الاستشراق إطلالة نقدية

الاستشراق
الأستاذ أنور الجندي
لقد تبين من الدراسات الواعية المتعددة مدى خطر الاستشراق على الفكر الإسلامي، ولم تبق إلا دعوى "الدور الذي قاموا به في تحقيق التراث الإسلامي" ومنها تبويب بعض كتب السنة وغيرها. ولا ريب أن الاستشراق يعمل على إيجاد حصيلة واسعة من مفاهيم الإسلام بدأها بترجمة القرآن والحديث النبوي وبعض الكتب المعروفة، والهدف هو إحكام الرد على ما في هذه من قضايا معارضة للمسيحية من ناحية أو معارضة للنفوذ الأجنيب من ناحية أخرى والحقيقة أن هذه الأعمال لم تكن خاصة لوجه العلم وهل بالرغم من ضآلتها بالنسبة لعمل الاستشراق الواسع في ابتعاث كتب التراث المتصلة بالفلسفة والتصوف الفلسفي والفرق المتصارعة والباطنية وغيرها فإنها عمل مشكور لهم ولكنه لا يشكل ظاهرة يمكن أن تحول دون الغرض الحقيقي للاستشراق بما يخدع به دعاة التغريب ذوي النيات الجسنة منقومنا.
وهذه مجموعة من الحقائق:
أولاً: المستشرقون يدرسون قضايا الإسلام (لغته وتاريخه وشريعته وتراثه) بروح غير علمية، تقوم إما على سوء الفهم أو سوء النية، وهم لا يتصورون أي شيء إلا في حدود مفاهيمهم المسيحية اليونانية وعقليتهم الغربية التي تعودت على ربط الظواهر الإنسانية بالجنس واللغة القومية والبيئة في حدود المفهوم المادي القائم على المحسوس ومن هنا كان الإنسان عندهم ظاهرة قومية نشأت عن ظروف اقتاصدية ومن شأن هذا التصور أن يجعل كا أحكامهم على تاريخ الإسلام وشريعته وقيمه خائطة ومنحرفة لأن الإسلام يقوم على تصور جامع بين الروح والمادة والعقل والقلب.
ثانياً: قدم المستشرقون كتابات أعطوها صفة العلم في مختلف المسائل الإسلامية تدرس في بعض الجامعات على أنها صورة صحيحة لما جاء في الشريعة الإسلامية من أحكام وقواعد، جاء بعضها محرفاً وبعضها لا يقيد حكمة الشارع ثم بولغ في تحريف مدلولاتها ومعانيها على نحو يتعذر معه فهم أحكام الإسلام على وجهها الصحيح.
ثالثاً: أخضع المستشرقون تاريخ الإسلام لمفهوم المسيحية وتفسيراتها ثم أخضعوها لتفسيرات المادية الغربية ثم التفسيرات الماركسية.
رابعاً: دخل المستشرقون إلى مجامع اللغة وحولوا أهدافهم إلى مناهج براقة سواء في أحياء العامات أو الدعوة إلى تعديل النحو أو اللغة الوسطى أو الكتابة العربية المعاصرة وكلها محاولات ترمي إلى إيجاد فجوة بين لغة القرآن ولغة الكتابة.
ومن قبل ذلك تسللوا للبحث عن العاميات ولبسوا ملابس التجار والدبلوماسيين وصاروا يعملون بشتى الوسائل لجمع الأمثال العامية والمواويل بهدف مسموم هو القول بأن العامية لغة لها تراث.
وقد أولوا اهتماماً شديداً لدراسة اللهجات في البلاد العربية وعقدوا مؤتمراً خاصاً لذلك في مدينة ميونخ بألمانيا 1957 م وكتب المستشرقون في ذلك كتباً منها: كتاب في لغة الغجر في البلاد العربية ودراسات في اللهجات الأمهرية. السحرية والقطرية وغيرها من اللهجات المستعملة في جنوب الجزيرة العربية وعلى أطرافها.
والهدف في التركيز على اللهجات العامية واضح فهم الذين قدموا تلك الفلسفة الضالةة التي تقول إن العامية أقدر على تصوير المشاعر، مع أن هذه المشاعر التي تصورها العامية هي المشاعر الساذجة ومشاعر طفولة البشرية أين منها ذلك الشعر الرصين والبيان العربي الذي يحمل صور المجتمع الإسلامي والنفس الإسلامية في مراحل الرشد الفكري والهدف هو إضعاف لغة القرآن وتمييعها بالتحريض على استعمال اللهجات وتحطيم قواعد اللغة باسم التيسير.
خامساً: أثار الاستشراق دعوات مسمومة للتشكيك في الإسلام والطعن في مبادئه وتشويه الحضارة الإسلامية. ومن ذلك دعوتهم إلى رفع لواء الإنسلاخ من الماضي والتراث وإحياء النزعات القديمة كالفرعونية والفينيقية والآشورية وأمثالها والغض من شأن الشعوب الملونة في العالم الإسلامي ووصفهم بأنهم أقل قدرة من الجنس الأبيض (الأوربي) في مجال السياسة والمدنية والعلم والفن. والعمل على فصل الدين عن الدولة وإبطال فريضة الجهاد وإثارة الشبهات حول القرآن بطرح سموم على أيدي مسلمين وتوحي ببشرية القرآن للتشكيك في أنه من الله تبارك وتعالى والقول بتأثر الثقافة الإسلامية بالعقلية الإغريقية والفارسية، وهم في سبيل ذلك يعملون على انتزاع نصوص معينة من سياق المصادر لتأييد وجهة نظرهم ويعملون على إثارة التناقضات بين النصوص والمصادر.
سادساً: المبالغة في تمجيد الحضارات الشرقية القديمة السابقة للإسلام والإدعاء بأن الإسلام أخذ منها والبحث عن الأثر الغربي والأوربي في الفكر الإسلامي والمبالغة في تحديده وإكباره وجعله شيئاً أساسياً بالرغم من أنه أقل من ذلك ومحاولة إرجاع العلوم العربية إلى أصول يونانية.