قضايا الفكر والأدب


مجلة الموقف الأدبي - مجلة أدبية شهرية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق - العدد 298 شباط 1996
الأسلوب الأدبي ـ مدخل نظري
حنا عبود

أول منْ خص الأسلوب بشيء من التحليل الفضفاض هو أرسطو في كتاب الخطابة، وليس كتاب الشعر. وقد سعى السعاة بعده لخلق علم أطلقوا عليه في القرون الحديثة "علم الأسلوب".‏
أسماء العاملين في هذا الحقل كثيرة جداً، بل تشكلت مدارس عدة من شكلانية وبنيوية ولسانية خصصت للأسلوب حيزاً كبيراً في محاولة للإمساك بهذه الظاهرة التي تبدو بسيطة، في حين أن تحديدها، كما نلاحظ، هو من أصعب الأمور.‏
ولو نظرنا في الدراسات التي وضعها أنصار المدرسة الواحدة عن الأسلوب لما وجدنا اتفاقاً، بل أحياناً نجد بينهم الشيء الكثير من التباين والتنافس والاختلاف.‏
لسنا معنيين بعرض آراء هؤلاء ولا أولئك ونظرياتهم ومبادئهم التي يزعمون أنها كاملة المواصفات العلمية، فما أكثر الكتب التي عرضت علينا هذه الآراء وتلك النظريات. وقد سعى النقاد والباحثون العرب إلى عرض ذلك في كتب باتت مشهورة من أحمد الشايب، وأحمد أمين، وحتى صلاح فضل، وعبد السلام المسدي، وجوزيف شريم. ولا نكاد نجد ناقداً في أدبنا إلا عرض مشكلة الأسلوب، إما نظرياً، وإما تطبيقياً لدى تحليله لنص من نصوص الأنواع الأدبية. ويمكن للقارئ أن يجد تسلية كبرى في متابعة هذه الآراء في كتبها المختلفة. بيد أن الحصيلة التي سينتهي إليها سوف تكون على وفرتها وغزارتها وعمقها عبارة عن "تضاربات" في الآراء إن صح التعبير.‏
ولكن من باب آخر لابد من تقديم مثال يوضح للقارئ ما نرمي إليه، وسوف نكتفي برأي بوفون الناقد الفرنسي و نقابله برأي أحدث مذهب في النقد الأدبي اليوم وهو التفكيكية أو التناص.‏
والرأيان بسيطان جداً، يمكن إيجازهما بكلمات قليلة. فبوفون يقول أن "الأسلوب هو الرجل". فيعزو الأسلوب إلى الفرادة، فكل رجل يكتب بأسلوب مختلف عن رجل آخر، ولا مجال للعثورعلى أسلوب واحد لرجلين. فهو بهذا قد جعل الأسلوب شبيهاً ببصمة الإيهام على الوثائق الرسمية. فلو أن هناك بصمة واحدة لرجلين لما اعتمدت كشارة توثيقية قاطعة.‏
أما التفكيكية فتذهب إلى النقيض مما ذهب إليه بوفون، فهي ترى من خلال أعلامها، على الرغم من اختلاف آرائهم في بعض النقاط، أو في الكثير منها، أن النص لا يعلن موت المؤلف فقط بل يعلن موت النص نفسه. وهم يقصدون من هذا الكلام أننا لو أخذنا أي نص وفككناه لتوزعت جمله وكلماته على نصوص سابقة. ومن الصعب ـ كما يذهبون ـ العثور على ما لا وجود له فيما كتب من قبل. وكذلك رأوا أن النقد يجب أن يبتعد عن التقييم أو الاهتمام بالكاتب، وأن يحصر وظيفته في دراسة التناص، أو تقاطع النص مع النصوص السابقة.‏
ولو عرضنا الأركان التي يعتمد عليها الأسلوب عند المدارس أو النقاد الفرديين لرأينا أنها كثيرة جداً: اللغة، والنحو، والبلاغة، والجنس، والبيئة، والعصر، والمزاج الفردي، والاتجاه الاجتماعي، والراسب الطبقي، والأنماط البدائية، والانزياحات الطارئة، والتعديلات التي تلحق بالأسس السابقة.... أشياء وأشياء كثيرة لا يمكن حصرها.‏
بعض النقاد يهملون أركاناً ويشددون على أركان أخرى، وبعضهم يستنكرون أن يكون لهذا الركن أو ذاك دخل في الأسلوب الأدبي، وقد بلغ الأمر إلى حد الإعلان أن أي ربط بين الكتابة والكاتب خيانة للتحليل الأدبي، وبالمقابل أعلن آخرون أن أي إهمال لشخصية الكاتب وتكوينه النفسي يعني خيانة الموضوعية فكل اهتمام بالمنتج دون المنتج يعني دراسة التينة بعد أبعادها عن التربة والمناخ ومهارة الزراع... وإلى ذلك من المساجلات البوليميكية التي تعتمد منطقها الخاص في النظر إلى الأسلوب.‏
وإلى جانب كل هذه التضاربات في الآراء والنظريات والمذاهب فإن أياً منها لم يقدم لنا تفسيراً للظاهرات الأسلوبية العامة أو الخاصة. فلاشك في أن هناك فترة شاع فيها أسلوب معين، كأسلوب الروكو كو في أوروبا أو أسلوب السجع أو المقامات في الشرق العربي. ولاشك في أن هذا الأسلوب لم يكن عاماً في النص الأدبي وحده، بل كان عاماً حتى في الأساليب الحياتية الأخرى كالزخرفة و الهندسة المعقدة والزينة المرهقة والتلاوين الثقيلة وإلى ذلك. بل إن الثياب والمآدب مالت إلى أسلوب الروكوكو أو أسلوب الزخرف. فهذه الظاهرة وما إليها من الظواهر العامة في العصور السابقة، أو اللاحقة لهذه الظاهرة لا نجد لها تفسيراً مقنعاً لدى أي من تلك المدارس أو هؤلاء النقاد. والابتكار الألماني "روح العصر"، لم يجد إجماعاً، كما أنه في الوقت ذاته، لم يستطع أن يقدم إلا بعض العموميات، التي نجدها في كل عصر وليس في عصر معين.‏
أما الظواهر الأسلوبية الخاصة فهي أيضاً مستعصية على التفسير، فلاشك أن هناك أسلوباً ملتونياً أو أسلوباً شكسبيرياً وأسلوباً بوبياً (الكسندر بوب)، كما أن هناك أسلوباً خاصاً بابن الرومي أو المتنبي أو أبي العلاء... وهذا يدل على أن الاشتراك في اللغة أو البلاغة أو العصر أو الجنس أو الدين أو البيئة لا يعني الاشتراك في الأسلوب اشتراكاً حتمياً.‏
وبالمقابل فإن سيادة الأسلوب الواحد في العصر الواحد ليست ظاهرة مستمرة تنطبق على كل العصور، فثمة عصور تكون فيها اللغة واحدة والأساليب مختلفة، فأسلوب جرير يختلف عن أسلوب الفرزدق وأسلوب أبي تمام يختلف عن أسلوب البحتري، الذي يختلف بدوره عن أسلوب ابن الرومي.. مع أن العصر واحد.‏
وهذا ما حدا ببعض النقاد إلى الكفر بالنظريات الأسلوبية مهما كانت. فالنقاد الجدد في أميركا، رأوا أن المدخل إلى النص هو النص لا التاريخ ولا الجغرافية ولا النفس ولا أي شيء آخر، خارج هذا النص، والهدف هو النص نفسه لأننا فيه نعثر على الخاص والعام والإبداع والاتباع والفرادة والتنميط. وتحرير النص من الأسبقيات النظرية يعني بالدرجة الأولى قدرة الدارس على احترام كيان النص نفسه وعلى الدخول البريء في قراءته.‏
من كل هذا نلاحظ أن الأسلوب أشبه بسمكة صغيرة في محيط كبير يصعب رصدها ويستحيل تحديد كيانها فهي تتحرك بسرعة وتبدل ألوانها بين الحين والحين. والخوض في مناقشة النقاد والمدارس النقدية لن يفضي إلى نتائج مجدية في تحديد الأسلوب.‏
***
إلى جانب ذلك هناك ظواهر أسلوبية لا يمكن إنكارها. فنحن مثلاً نميز بين أسلوب شكسبير، وأسلوب ملتون في أي لغة قدم لنا شكسبير أو ملتون. ونحن نميز بين أسلوب فرجيل وأسلوب دانتي، في أي لغة قدمت لنا فيها الإلياذة والكوميديا الإلهية. وأسلوب إدغار آلن بو يختلف في أي قصيدة عن أسلوب أخلص تلاميذه كبودلير ومالارميه.ومقارنة أي نص شعري لبو مع أي نص شعري لبودلير، بأي لغة نجد أن الفارق بينهما أو الفوارق بينهما بارزة جداً مع أننا غيبنا اللغتين الأساسيتين: الإنكليزية والفرنسية.‏
هذه الناحية تعتبر هامة جداً، فهي مدخل من أهم المداخل التي تسعى إلى تحديد مملكة الأسلوب.‏
لاشك في أن اللغة الوطنية تعطينا أشياء لا تتوافر في اللغات الأخرى، كالقوافي والإيقاعات واختيار المخزون اللغوي، إلى ذلك مما يشكل خصائص اللغة الوطنية.‏
وحذف هذه الأشياء لدى نقل النص إلى اللغة الأجنبية لا يعني طمس الأسلوب، إذ نلاحظ أن هناك نواة قد تكون محدودة، ولكنها كبصمة الإبهام، لها طابع يشير إلى الشاعر أو الكاتب... اللهم إذا كان مجيداً متقناً معجوناً بالتقليد الأدبي من جهة، وساعياً إلى الإبداع من جهة أخرى...‏
إن استبعاد الخصائص النوعية للغة الوطنية لا يعني استبعاد الأسلوب وقتله أبداً، لأن ما نستبعده منها عن طريق نقلها إلى لغة أخرى هو نفسه الخاضع للتغيّر من زمن إلى آخر.‏
فالقافية والسجع والمحسنات اللفظية والمعنوية تخضع للتغيّر الزمني في اللغة الوطنية، فحذفها يعني استبعاد ماهو عابر لصالح ماهو وطيد. فترجمة"صنت نفسي عما يدنس نفسي"، إلى لغة أخرى، لا يوفر الإيقاعات الحزينة الهامة، ولكنها في النتيجة تحافظ على الأسلوب الأعمق للبحتري؛ مما يجعله يتميز من أبي تمام غيره كالمتنبي والمعري وابن هاني.‏
وكما أن اللغة الواحدة ليست مدعاة للأسلوب الواحد، فإن الموضوع الواحد ليس مدعاة للأسلوب الواحد. إن فاوست غوته يختلف عن فاوست مارو أو فاوست فاليري أو الراهب الأسود لتشيخوف، وتاجر البندقية يختلف عن يهودي مالطة، وإن كان الموضوع واحداً. إن ربيع البحتري يختلف عن ربيع أبي تمام، ليس في الاستخدام اللغوي وإنما في الموقف الأدبي. وترجمة الربيعين إلى اللغة الأجنبية سوف تحتفظ بالفارق بين الاثنين مهما كانت الخصائص النوعية للغة الأصلية، مستبعدة في الترجمة، مما يدل أن الشخصية العميقة للنص الأدبي تظل واحدة رغم خسارة الكثير من أدوات الأداء الإنشائي في اللغة الوطنية.‏
وكل ما نستطيع قوله بهذا الصدد: "إن نكهة الأسلوب المحلية تطفو في اللغة الوطنية، بينما نكهة الأسلوب الأدبية العميقة هي التي تبقى بعد نقل النص إلى لغة أخرى. فدستويفسكي العربي، يختلف عن دستويفسكي الروسي، أو الفرنسي، أو الإنكليزي، من حيث النكهة المحلية الروسية للأسلوب أي نكهة اللغة الوطنية، ولكنه من حيث عمق الشخصية الأدبية في النص يبقى واحداً في كل اللغات. وهذه النكهة خاصة باللغة الأصلية، لا يمكن أن توفرها لا العربية، ولا الفرنسية، والألمانية، وربما لا توفرها البلغارية نفسها، إذ لكل لغة معجمها الخاص العنيد الذي لا يمكن ترجمته أسلوبياً، وإن أمكن ترجمته لفظياً، بعد أن تفقد الألفاظ ظلالها الوطنية في كثير من الأحيان. ومهما حاولنا توفير المحسنات اللفظية، للمقامات في الترجمة الأجنبية فإن النكهة الخاصة أبعد من أن تترجم، والمحسنات تحمل خصائص اللغة المترجم إليها لا المترجم عنها.‏
***
مالت النظريات الأدبية الحديثة إلى إلغاء الفارق بين الأنواع الأدبية وعلى الأخص النزعة التفكيكية التي ترى أن تحليل أي نص لا يستدعي الالتزام بمبادئ الكتابة الروائية أو المسرحية أو الشعر الغنائي أو القصة أو المقالة أو الفلسفة. فتشريح النص سوف يعيد مواده إلى مراجعها بغض النظر عن الفن الأدبي الذي تلقيناه عن طريقه.‏
بل إن الأمر يتعدى ذلك عند نورثروب فراي فهو يرى أن أي كلامٍ هو أدب من لغة الشارع إلى لغة البلاط، ومن لغة الطفل إلى لغة شكسبير، وما يميز كلاماً عن كلام هو مستويات الأداء فقط، فهو لا يعترف على ما يسميه النقاد ما قبل الأدب الذي يشمل الشعر الشعبي والزجل والغناء... بل يرى الأدب واحداً، ليس فيه قبل وليس فيه بعد. ومع أن كلمة الأسلوب (ستيلوس) تعني القلم، أي الأداء الكتابي المتأني الذي منه يبدأ تاريخ الأدب، فإن فراي يرى الأدب قائماً بقيام الوعي البشري الأول، والأسلوب لا يختلف قبل الكتابة عن الأسلوب بعد الكتابة مادامت الأسطورة هي النواة الأساسية للأسلوب وللأدب كله.‏
ونظرية كهذه تجعل الأدب يشمل كل كلام، من العادي إلى المنمق، تشبه بعض النظريات المتطرفة التي لا ترى في تمثال جوبتير فناً يفضل الفن الذي نجده في تصميم مبولة المشافي. فالعنصر الفني لا يمكن حذفه حتى من أبسط الصناعات الإنسانية، فمن المحراث البدائي وحتى تمثال الحرية هنا صنعة فنية لا يجوز الاستخفاف بها في الأشياء البسيطة والزخرفية الأولية (الكيتش) وإكبارها في التماثيل الضخمة. والأسلوب الفني موجود في تصميم الكوخ البدائي مثلما هو موجود في ناطحات السحاب، وموجود في رسوم الكهوف الصخرية القديمة وجوده في بناء الأهرامات.‏
وقد ظهرت نظريات متطرفة غاية التطرف ألغت الاعتراف بأي أسلوب، فكما دعا جون كيج إلى موسيقى الصمت دعا إيهاب حسان إلى أدب الصمت، معتبراً أن الصمت هو خير تعبير عن الحالة النفسية. وقد دعت سوازانا سونتاغ إلى رفض التفسير والشرح، ودعت إلى الانفلات من كل قاعدة، بل إلى ممارسة الأدب في الحياة اليومية العملية، بدلاً من الالتفات إلى المكبوت، والتعبير عنه بأسلوب منمق مخادع يغطي حقيقة الإنسان، فالأدب هو البورنو الذي يجب أن يمارس وليس الذي يطلى ويموه، فلا صدق إلا بالممارسة، فالكتابة خيانة الحقيقة، وعلى هذا تكون كتب البورنو من أمثال "رجوع الشيخ إلى صباه"، عندنا من الأساليب الصادقة لأنها لا تحتاج إلى أي تفسير أو شرح. إن تفسير النص أو شرحه يعني عند سونتاغ أنه نص منافق مراوغ محتال يخبئ الحقيقة... وبالتالي فإن التفسير يتبع شخصية المفسر، مما يجعلنا ننتقل من نفاق إلى نفاق ومن كذب إلى كذب... فالأديب الحقيقي هو الذي لا يحتاج إلى تفسير.‏
****
يرى القارئ نفسه أمام ركام من النظريات والآراء المتباينة والمتناقضة، المتشددة والمتسيبة المؤيدة وجود أسلوب والرافضة وجود أي نوع من الأسلوب، والموت الذي طال المؤلف، طال الآن النص، فالنص يشبه الشمس اليومية، أي أنه تكرار لما سبق، ولا طائل منه، فالأسلوب من باب أولى أن يكون جثة منقولة النسخة عن أشباح سابقة.‏
والدارسون اليوم في مجال الأسلوب والنظرية الأدبية أمام موقفين: إما أن ينفضوا أيديهم من تكوين نظرية أسلوبية متبنين الموقف النهلستي الرافض لكل أسلوب أو أن يحاولوا مقاربة المسألة بطريقة تسعى إلى تلمس المعالم الكبرى المشتركة بين آداب العالم.‏
وعلى هذا لا يمكن إقامة نظرية أسلوبية على الخصائص القومية للغة، ولا حتى على اللون المحلي للأدب، فهذه العناصر لا تساعد في إبراز الأدب كمؤسسة عالمية، بل إنه أول مؤسسة عفوية حقيقية تفرض سلطتها المعنوية على العالم. فالنظرية الألمانية ـ إن كان ثمة نظرية يمكن تسميتها النظرية الألمانية ـ عندما تقتصر على الأدب الألماني تسقط، وينطبق ذلك على الفرنسية والإنكليزية... وأي لغة أخرى أو أدب آخر.‏
أي نظرية في ميدان الأدب لابد من أن تكون عالمية، وأعتقد أن هذا ليس شيئاً إرادياً، بل ينبع من طبيعة الأدب الإنسانية العامة، ولا يتناقض هذا مع الخصائص القومية أبداً. لكن مثل هذه الخصائص لا تشكل قاسماً مشتركاً، لذلك يقتصر على دراستها ضمن نطاق المفاعلة الداخلية فقط. أما النظرية فهي مضطرة أن تكون شمولية. لأن الأدب نفسه يحمل الخصيصة الإنسانية التي ترفعه عن الجنس واللون واللغة... وغير ذلك مما يحد من التواصل الإنساني.‏
إذا سلمنا بهذه الأمور وأقررنا إنسانية الأدب وشموليته، فإن النظرة إلى الأسلوب سوف تهمل النحو والبلاغة والخصائص القومية الخاصة، لتكون عامة، يمكن تطبيقها على أي لغة وأي أدب.‏
وأرى أن المصطلح الفرنسي POINT DE VUE أصلح المصطلحات ليكون حجر الزاوية في بناء نظرية أسلوبية. فلمعرفة الأسلوب في أي لغة لابد من الإمساك بزاوية الرؤية أو الموقف الأدبي الذي يقفه الكاتب أو الشاعر.‏
هذا الموقف يرتبط بالحياة، أي يرتبط بالأدب لأن الأدب هو وحده وقبل غيره مهندس الحياة، فهو الذي خلق الديمقراطية في اليونانية القديمة وهو الذي وضع القوانين، وهو الذي نظم الألعاب وهو الذي بعث الفنون، وهو الذي نظم المجتمع وأشرف عليه.‏
ولكن بعد سقوط اليونان، أو بالأحرى بعد سقوط أثينا، صار الأدب سيرورة خاصة، وصار ينظر إليه على أنه نافل، وتسلية فارغة، وسبب ذلك أن الاقتصاد السياسي حقق تقدماً وسيطرة، وجرف البشرية إلى صراعات دموية، أضفى عليها صفات كاذبة، فأوهم الناس أنها صراعات مصيرية أو قومية أو وطنية... وتحت هذه الأوصاف تحققت أشنع الجرائم الإنسانية من إبادة شعوب أو احتلال أراضٍ أو غزو أو تهجير.. والعصر الذي نحن فيه اليوم لا يختلف أبداً عن أي عصر سابق من عصور الاقتصاد السياسي، إن لم يكن أسوأها طراً. ففيه يرقصون حول عجل الذهب، مما أفسد الأرض، برها وبحرها وجوها، وهي الآن مهددة بمصيرها.‏
سيادة الاقتصاد السياسي في كل ميادين الحياة جعل الأدب تسلية خاصة جداً، أي ليس تسلية نخبة كما هو شائع، بل تسلية فرد وحسب. إنه أشبه بلعبة لا تجد من يشارك فيها، أو حتى يتفرج عليها، لقد صار الأدب يبدو غريباً في هذا العصر بعد أن أبعده الاقتصاد السياسي عن عمليات الإنتاج. بل إن الإحساس بالغربة غزا نفوس المنتجين الأدبيين أنفسهم حتى صار بعضهم يؤمن حقاً بأن الأدب عنصر ثانوي في الحياة وأن المحرك الأساسي هو المادة أو الاقتصاد السياسي. وأعتقد أن هذا هو السبب لظهور نظريات متطرفة تصل أحياناً إلى حد رفض الأدب رفضاً باتاً، وكلها نظرياً تتصل بالبراغماتية المستخفة بالأدب على اعتبار أنه أبعد من أن يقدم خدمة ملموسة للإنسان. ولا تختلف هذه النظريات عن البراغماتية، ممثلة الاقتصاد السياسي، إلا بدرجة تطرفها ليس أكثر.‏
إذا انطلقنا من المصطلح الفرنسي Point DE VUE (ونتفق على تسميته بالموقف الرؤيوي أو بالموقف الأدبي)، تبدى لنا الأدب أو الأسلوب الأدبي واضحاً بعد حذف التضاريس المحلية التي تفرضها القومية والظروف الأخرى، وتجلى لنا العامل المشترك، والثابت والمتغير على الصعيد العالمي.‏
الموقف الرؤيوي أو النظرة إلى الحياة هي النواة الأساسية لكل أسلوب، سواء على صعيد العصر أو على صعيد الفرد، مع العلم أن الفارق بين الصعيدين ليس حاداً إلى الدرجة التي نتخيل فيها أن هناك تضارباً أو تناقضاً.‏
سوف أكتفي بتقديم مثال واحد لإيضاح الجذور الأساسية للأسلوب، وسأختار شاعرين كبيرين هما سوفوكليس وشكسبير. الأول في مسرحيته "أوديب ملكاً"، والثاني في مسرحيته "مكبث"، فالمسرحيتان تقومان على قتل الملك وتغيير السلطة تغييراً كاملاً. لكن أسلوب شكسبير يختلف عن أسلوب سوفوكليس لاختلاف موقفهما. فسوفوكليس ينظر إلى الحياة نظرة ثنائية ضدية AMIVALENCE بمعنى التسليم بوجود أقطاب ثنائية متعارضة تتعايش بجدلية عجيبة حتى أن حذف أحدهما يعني حذف الآخر. فالحياة والموت مثلاً قطبان ضديان لا يمكن الحفاظ على أحدهما إلا بوجود الثاني، وحذف الواحد يعني تماماً حذف الآخر، ويعني من باب آخر أن ننظر إلى الأشياء السيئة أو الشريرة على أنها ذات شرعية في الوجود، أو أن الوجود يستدعي شرعيتها من أجل القطب المقابل حتى يتماسك الوجود. ومن دون هذه المعادلة لا تنتظم الحياة ولا تستمر.‏
من أين تتسرب التراجيديا؟... من هذه الثنائية الضدية، بغض النظر عن الإرادة البشرية، سموا ذلك "هامارتياً"، أي ذلك الخلل الناجم من الثنائية الضدية التي تكون في الأغلب مستترة غير ظاهرة إلا بعد عقابيلها الوبيلة. إنها نقطة الضعف البشري، أو ما شئت من التسميات شريطة أن تشير التسمية إلى أن الوجود البشري متناقض ـ وهذه النقطة هي التي تشكل نظرتهم إلى القدر.‏
دائماً في مسرحية سوفوكليس تظهر المطالب أو الرغائب الفردية تحت مظلة الثنائيات الضدية ولا تشكل حيزاً منفصلاً. رغائب لايوس وأوديب وجوكاست وكريون وترسياس... كلها لا تؤثر في المجرى العام للحياة بجذرها الصلب. والحتمية التي تبدو لنا تتوزعها الأحداث التصادفية العابرة حتى أنها لتبدو (أي الحتمية) مهيمنة على الصدف، أو أن هذه الصدف هي التي قد استجرت الحتمية، إن كل شخوص المسرحية عند سوفوكليس يفصحون عن مقاصد إنسانية خيرة.‏
لا توجد شخصية آثمة VILLAINأبداً. من منهم الآثم؟... لا أحد، كلهم يتجهون إلى خير المدينة/الدولة طيبة، وكلهم يريدون سعادة الناس، ومع ذلك تتحقق التراجيديا.‏
إذن هناك شيء خارج الإرادة وخارج النية الطيبة يعمل عمله، والإنسان شاء أم أبى يرى نفسه في مواجهة هذا الشيء الذي يظل مجهولاً حتى يتحقق. وبعد أن يتحقق يختلف الناس في تفسيره فيظل في التفسير مجهولاً أو على الأقل غير واضح ولا محدود، هل هو نقص في الطبيعة البشرية أم هو خلل في تنظيم المجتمع، أم أنه ينحدر من اصطدام الرغبة مع القانون...؟، أشياء كثيرة يمكن أن تطرح. ولكن من دون الوصول إلى نتيجة حاسمة.‏
الأسلوب في هذه المسرحية نابع من هذه النظرة لذلك هو أسلوب واقعي بسيط بعيد عن أي تعقيد أو وعظ. فلا يفلسف الأمور ولا يعمد إلى الزينة والزخرف، إنه متماسك تماسك الموقف السوفوكلي.‏
لكن مكبث شكسبير يختلف عن أوديب اختلافاً كلياً، إن المسرحية مبنية على رغبة تثور في صدر الليدي مكبث. إنها لا تولي أي اهتمام بنسيج الوجود ولا بالثنائية الضدية، ولا بالها مارتيا المجهولة التي تتسرب من سماء صافية. إن هذه المسرحية قائمة على النزعة الفردية الصرفة التي لم يكن لها وجود في موقف سوفوكليس. ومنذ الفصل الأول يعلن مكبث عن وعيه بتراجيدياه:‏
لماذا أستسلم لذاك التخيل‏
الذي ينتصب شعري لصورته المرعبة‏
ويجعل قلبي المستقر يقرع حنايا ضلوعي‏
ضد ما قررته الطبيعة؟.. فالمخاوف الحالية‏
هي أقل بكثير من التخيلات المرعبة.‏
كم يكون سخيفاً لو سألنا: ما مصير الفعل الذي يتحقق ضد ما أرادته وقررته الطبيعة؟.. إنه سؤال سخيف حقاً فكل فعل ضد إرادة الطبيعة مصيره الفشل والمأساة، فمنذ البدء نعرف أننا أمام تراجيديا. لكنها تراجيديا غير نابعة من نسيج الوجود، إنها تخص مكبث وزوجته فقط.. ولهذا فإنها تقع على آثم هو مكبث. إنها لا ترتبط بالحياة الضاجة بالأقطاب الضدية ولا تقع على بريء كأوديب أو بروميثوس. والليدي مكبث لم تحرض زوجها على الانتقام، كما لم تكن مدفوعة بعاطفة الانتقام كما كانت كليتمنسترا. إن التراجيديا هنا عبارة عن فعل عدواني فردي لا تمت إلى مفهوم التراجيديا الإغريقية بأي صلة.‏
أنت منذ بداية المسرحية لا تنتظر شيئاً، فلا شيء ينتظر مادام العمل المشين هو ضد إرادة الطبيعة، عقابه معروف ومصير مكبث معروف. إنك تجلس وأنت تعرف المصائر كلها.‏
هنا نحن أمام نظرة تولي الفرد أهمية كبرى. وهذه النظرة لم يكن لها وجود قبل ذلك أبداً في المسرح اليوناني، ولا في المسرح الوسيط الذي مسح الفرد مسحاً، وجعله تابعاً لاستراتيجية سكاتالوجية. إنه لم يترك له فسحة كما فعل المسرح الإغريقي الذي جعل أفعال الإنسان وإرادته تحتل مكانها في صراع الوجود، هذه الفردية الجارفة لم تبرز إلا في أعقاب تخلص أوروبا من النظرة الصارمة للكنيسة الغربية التي ابتذلت الفرد ابتذالا بعيداً جداً، وإلا بعد أن تدفق الذهب الأمريكي وحقق الاقتصاد السياسي نصراً مبيناً على الاقتصاد الأدبي، لقد صار الفرد مقصداً للكتاب بعد أن كان أداة يستخدم للكشف عن الأقطاب المتصارعة في نسيج الحياة.‏
هذه النظرة اقتضت من شكسبير تجميل كل شيء، كل كلمة، كل حركة، كل التفاتة... ومع ذلك فإن الإشراق الأسلوبي عنده يظل مفتعلاً، إننا في مكبث بعيدون عن حقيقة الوجود.‏
في مسرحية سوفوكليس نشعر فعلاً بالخوف والشفقة لأن أوديب بريء براءة الذئب من دم يعقوب. كما يقولون، ولكن في مسرحية شكسبير لا تثور فينا شفقة ولا خوف بل عاطفة الشماتة والتشفي، إن المتفرج ينتظر العقاب الذي يعرفه سلفاً باعتبار أن البطل ارتكب ما يخالف قوانين الطبيعة. وهو ينتظر ذلك للتشفي وليس للشفقة. إن الليدي مكبث تثير فينا القرف والاشمئزاز. أما مكبث نفسه إننا نستخف به لأنه أصغى لوسواس زوجته، ولكننا نشفق عليه قليلاً لأنه ضحية هذا الوسواس وإن كان آثماً بكل معنى الكلمة. لكن هذه الشفقة الخفيفة لا تكاد تذكر أمام الإثم الكامل عند الليدي مكبث التي تقول منذ الفصل الأول:‏
أقبل أيها الليل الكثيف‏
وكفن نفسك بأقتم دخان الجحيم‏
وحتى لا ترى سكيني الرهيفة ا لجرح الذي تفتحه‏
ولا السماء تخالس النظر عبر صفحة الظلام.‏
لتصرخ: توقف. توقف.‏
فأي إثم أكبر من هذا الإصرار على الجريمة؟...‏
إن الأفلام الأميركية لا تسمح للجريمة أن تنجو من العقاب. ومنذ ارتكاب الجريمة يعرف المشاهد أن العقاب آت. وقد زخرف شكسبير أسلوبه مضطراً. وليس من سبيل أمامه إلى ذلك لأن كل شيء بات واضحاً ومكشوفاً، وبذلك ابتعد شكسبير عن البساطة اليونانية التي كانت أساساً لأسلوبهم النابع من نظرتهم إلى الحياة.‏
لاشك في أن التقليد الأدبي واحد عند شكسبير وعند سوفوكليس أنه دائماً يدين الجريمة سواء كانت من صنع المقادير أم من صنع الأهواء والميول النفسية، هذا ميدان آخر، لكن حديثنا هنا ينحصر في أن الموقف الرؤيوي أو الموقف الأدبي يلعب الدور الحاسم في المداميك الأساسية للأسلوب.‏
هذا التركيز على الفرد الذي أعقب القرن الخامس عشر، سار أكثر فأكثر حتى بلغ الذروة في موقف مسرح العبث من الحياة، وأعتقد أنه هو الذي يقبع وراء كل تلك النظريات التي راحت تجول في النفس الفردية تتعمقها بحثاً عن ميادين جديدة للأدب. فلا تقع إلا على التشوهات مما جعلها تتحلل من المسؤولية التي كان يحملها الأدب تجاه المجتمع والحياة ويتحول إلى مسلاة وطرافة حقاً.‏
المشكلة عند سوفوكليس ليس مشكلة أوديب. إنها مشكلة الحياة. أما المشكلة عند شكسبير فإنها مشكلة مكبث وزوجته فقط، وبهذا الانتقال تغيَّر الأسلوب منذ أيام الرومان وصار يبحث عن الطرافة ويكثر من الزينة والزخرفة والتأثير اللفظي والاستدرار العاطفي، ولجأ الكتاب إلى الانفعالات الصارخة تاركين خلفهم النسيج المتشابك للحياة، إنه انتقال من الأسلوب الواقعي البسيط المؤثر بصدقه إلى الأسلوب الصاخب الذي يعمل على التأثير في القراء أو المشاهدين عن طريق الأسلوب المنمق والصور المشتقة والمستحدثة والمواقف المتفردة، وبذلك صار النقاد ينظرون إلى الأسلوب كشيء منفصل قائم بذاته فيربطون بينه، وبين اللغة وبلاغتها وليس بينه وبين الحياة وثنائياتها الضدية. ومن هذا القبيل موقف الجاحظ الذي زعم أن المعاني متاحة لكل إنسان وإنما العبرة في اختيار الألفاظ، إنه موقف منفصل عن الحياة يجعل من الأدب تسلية قد تكون طريفة، ولكنها بعيدة عن المسؤولية التي شاهدناها في الأدب اليوناني. فلا عجب ومو قف الجاحظ كما أشرنا أن يصبح الأدب عنده عبثاً لفظياً ومشاحنات غرضها الإثارة لا الإنارة فهو لا يتوانى عن ذم العثمانية ثم يعود ويدافع عنها، كما أنه يذم الأدباء والكتاب من دون أي مسوغ ويفضل الجواري والقيان على الحرائر.... إن كل همه أن يجعل لنفسه موقع قدم. فلا موقف واضح من الحياة ولا مسؤولية أدبية، مما جعل أدبه خليطاً عجيباً لا معنى له.‏
***
خلاصة ما نريد قوله أن نظرة الكاتب أوموقفه من الحياة هو الذي يحدد معالم أسلوبه. قد يكون هذا الموقف سمة عامة لعصر فتتقارب أساليب الكتّاب وقد يكون خاصاً بالكاتب دون سائر الكتّاب، فيرى الحياة من موقف يختلف عن معاصريه فيختلف أسلوبه في بعض نواحِيه المتعلقة بهذا الموقف عن بقية الكتاب.‏
إلا أن موقف الكاتب ليس موقفاً منفصلاً عن الوعاء الاجتماعي الذي يوجد فيه الكاتب فهناك دائماً مفاعلة علينا أن لا نغفل عنها، كما أن هناك تقليداً أدبياً يفعل فعله عبر العصور ولا يجوز أن نتجاهله عندما نمسك بموقف الكاتب.‏

**********************************************************************************