تحليل الخطاب


مجلة الموقف الأدبي - مجلة أدبية شهرية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق - العدد 361 ايار 2001
*******
نظرية تحليل الخطاب ـــ د. مازن الوعر
عندما يتناول الباحث موضوعاً كهذا تقفز إلى ذهنه أسئلة كثيرة منها:‏
-كيف يمكننا تحديد الفروق القائمة بين اللغة الرسمية واللغة غير الرسمية؟ بين اللغة المنطوقة واللغة المكتوبة؟ بين اللغة الفصحى واللغة العامية؟‏
-كيف يمكننا تحديد مفهوم الأدب؟ هل يحق لنا أن نتكلم عن الأدب الشفهي الشعبي)؟ وإذا كان ذلك كذلك فما هي صفات هذا الأدب المتميزة؟‏
-كيف يمكننا تحديد مفهوم الشعر ضمن إطار الأدب؟‏
-ثم ماذا عن الشعر الشفهي الزجل، العتابا... الخ)؟ كيف يمكننا تمييزه عن الأغنية أو الأنشودة من جهة وعن النثر العادي من جهة أخرى؟‏
-وأخيراً وليس آخراً، ما هي الصفات المميزة للحكاية الشفهية؟‏
سوف نستخدم هنا مصطلحين اثنين يعبران عن كل هذه التساؤلات. وبكلمة أدق، إن كل هذه التساؤلات يمكن أن تنتمي إلى هذين المفهومين وهما: اللغة المنطوقة، واللغة المكتوبة.‏
هناك مواد مكتوبة في الجرائد والمجلات مثلاً) لا يمكن اعتبارها أدباً على الإطلاق.. وفي الوقت نفسه هناك مواد شفهية كالأساطير اليونانية) تعتبر أعمالاً أدبية عالمية. هذه المسألة تطرح سؤالاً عويصاً يدور حول كيفية تحديد مفهوم اللغة الأدبية.‏
يقترح اللساني الأمريكي وليام برايت)) W.Bright 1982) أن الأدب هو الخطاب أو النص الذي يحمل قيمة جوهرية ذات انتشار وانتقال ديناميكي مستمر في مجتمع من المجتمعات.‏
ولكن الأدب الشفهي القيم والنافع والمستمر والمنتشر يطرح سؤالاً آخر ذا بعدين متناقضين هو:‏
-كيف يمكن للأدب أن يكون قيماً ومثقفاً على الرغم من أنه أدب شفهي غير مكتوب؟ والمثال على ذلك الأدب الشفهي القيم والمثقف والواسع الانتشار وهو أدب الإلياذة والأوديسا، ثم أدب الأساطير الهندية القديمة مهابهاراتا - رامايانا - فيداس))، وأخيراً الشعر العربي الجاهلي عندما كان في حالته الشفاهية وقبل أن يدوّن(1) . الواقع أن هذه النصوص الأدبية كانت بالأصل شفهية ثم سجلت وانتقلت إلينا عبر الكتابة. وإذا قرأنا هذه النصوص على حدين بصوتٍ عالٍ فإننا سنعيدها إلى صفتها الشفهية.‏
نستنتج من ذلك أن الفرق بين الكلام والكتابة لا يمكن أن يتخذ معياراً أو مقياساً لتحديد أو تعريف الأدب. صحيح أن الأدب الشفهي المألوف يمكن أن يختلف في الكم عن الأدب المكتوب إلا أنهما لا يختلفان أحدهما عن الآخر من حيث النوع والكيف. كثيرة هي الآداب الشفهية التي تصور الموضوعات الفكرية والجمالية نفسها التي تصورها الآداب المكتوبة.‏
ولكن إلى أيّ حد تستطيع الآداب الشفهية أن تحافظ على نفسها دون تغيير أو تبديل وهي تنتقل من جيل إلى جيل كما هو الأمر في الآداب المكتوبة؟ يرى جاك جودي)) J. Goody 1977) أن الآداب الشفهية يمكن أن تبقى دون تغيير أو تبديل في مستوى البنية ومستوى الاستعمال المتكرر للتعبيرات المقولبة المسكوكة)، أما في مستوى الكلمة المفردة فإنها تتغير وتتبدل.(2)
على أية حال إن الآداب الشفهية تبقى دون تغيير ما دامت القيمة الرفيعة لها تظل ملتصقة بالذاكرة الإنسانية على نحو مضبوط. أضف إلى ذلك أن كثيراً من المناهج والمدارس التي أسست قديماً كانت قد فرضت قواعد صارمة لتعلّم الأدب الشفهي وحفظه من الضياع والتأكد من عدم تغيّره وتبدّله، كما هي الحال في المنهج الذي أسسه العالم الهندي بانيني)) Panini)، ثم قواعد الرواية الصارمة عند العرب القدماء عندما كانوا يتناقلون الأدب شفاهية الرواية مع الدراية كما تقول العرب). حتى إن القواعد التي وضعها بانيني للغة السنسكريتية والتي كانت وصفية ثم أصبحت معيارية، كانت قد وضعت مشافهة دون كتابتها حتى منتصف القرن الثالث قبل الميلاد، أي ولادة النصوص السنسكريتية مكتوبة(3) .
هذا الاعتقاد يمكن دعمه كما يقول لويس رينوا)) L. Renou 1954) من خلال شكل القواعد سوترس Sutras)) التي استعملها بانيني والهندوس الأوائل... تلك القواعد التي سهلت ويسّرت عملية الحفظ والتذكر(4) . وحتى بعد طبع الكتاب الهندي المقدس الفيدا)) لا تزال الوسائل الشفهية لحفظه وتذكره تستعمل حتى وقتنا الحالي.‏
والواقع أن الغرب المعاصر الذي يتكئ على عكازة الكتابة من أجل العملية التعليمية والتثقيفية يصعب عليه إدراك الطاقات الجبارة للذاكرة الإنسانية التي تمتعت بها شعوب قديمة كالهنود والعرب).‏
والآن لنحدد مفهوم الشعر. إن المفهوم التقليدي في مجتمعنا والذي ما نزال نأخذ به هو أن الشعر يرجع إلى نص ذي قواعد منظمة على المستوى التركيبي والصوتي والعروضي. وهذا أمر صحيح ذلك أن الشعر لكي يكون شعراً ينبغي أن يكون منظماً على مستوى الشكل من تراكيب وأصوات وقوافٍ وعروض) وعلى مستوى المضمون أهميته وقيمته بالنسبة للمتلقي). إذا حقق الشعر هذه المستويات فإنه سيكون ذا بعد جمالي.‏
تقترح سالي مكليندون)) S.Mclendon 1982) أن النص الشعري يتألف من عدة أنظمة: صوتية وصرفية ونحوية وعروضية، وقد ترك اللسانيون لنقاد الأدب ما يدعى بالنظام البلاغي الذي يعدُّ من أهم الأنظمة الشكلية التي تؤلف النص الشعري وتؤسس علاقات مضبوطة بين جميع الأنظمة الأخرى(5) .
ينعكس النظام البلاغي في النص المكتوب من خلال أدوات التنقيط وأدوات أسلوبية أخرى كرتبة الكلمات وانزياح المعنى... الخ. أما في النص المنطوق فيتجلى من خلال الوقفة والإشارة والنبرة والنغمة وتوترات الكلام... الخ. هذه الصفات البلاغية تزول عندما يتحول النص من الشفاهية إلى الكتابية، ذلك أن الوقفات في الكلام والنبر وارتفاع الصوت وانخفاضه والسرعة النسبية فيه أو القصدية في التوزيع ودرجات التنفس في أثناء الكلام ودمج الشكل مع المعنى ثم دمج الصفات النغمية فيهما... يسمح ببناء النظام البلاغي في النص الشعري المنطوق، أضف إلى ذلك أن المرء عندما يستعمل أسلوبه الشعري يضيف نكهة بلاغية للمتلقي. هذا بالإضافة إلى الخلفية والحضارية التي ينطلق منها الشاعر لتلوين نصه الشعري بأطياف مختلفة.‏
النتيجة: هناك بعض الآداب الشفهية القديمة انتقلت إلينا دون تغيير وتبديل على الرغم من أن بعضها الآخر ليس كذلك... وفي الوقت نفسه ينبغي أن نتذكر أن بعض الآداب المكتوبة منذ ظهور الكتابة) لم تنتقل إلينا إلا بعد أن تغيرت وتبدلت.‏
إن الثبات والتغير في اللغة يطرح علينا السؤال التالي:‏
كيف يجدّد الأدب الشفهي والكتابي اللغة وعلى أي مستوى من مستوياتها؟‏
قبل الإجابة عن هذا السؤال يجب أن نقول إنه من الصعب على الباحث أن يعرّف اللغة ويحددها لأنها في المحصلة الكلية هي: صياغة وتخزين واسترجاع ومعرفة إيصالية وتواصلية وهي بشكلها المنطوق والمكتوب تشكل قوة: قوة الصوت وقوة التوثيق وقوة الإعلام..)) من هنا فإن التغيُّر الذي يفعله الأدب في اللغة له مسوغاته. هذا التغيير يمكن أن يكون نتيجة لعوامل عديدة كما يقترح الباحث اللساني ألتون بيكر)) A. Becker 1982)(6) :
العامل الأول: هو أن السياق الجديد والواقع الفيزيائي الجديد يمكن أن يولدا معاني جديدة في اللغة والمثال على ذلك العالم الجديد الذي انتقل إليه العرب في عصر الفتوحات، والعالم الجديد للأمريكيين في عصر اكتشاف القارات والذي جعلهم يولدون معاني جديدة مختلفة عن المعاني التي كانت سائدة في بلادهم الأصلية. ونحن نعلم أن كل لغة من لغات العالم لها ثلاثة أبعاد: اللغة والطبيعة والفكر))، فاللغة تتألف من إشارات دالة على الطبيعة... والطبيعة هي رمز للروح أو ما ندعوه العقل)). إن الطبيعة صورة عن العقل الإنساني. ذلك لأن الطبيعة المجازية للغة شخص ما تتجلى من خلال ثقافته.‏
والواقع أن الشخص عندما يتكلم يختار من الطبيعة مجموعة من المعايير لكي يؤسس بنية منسجمة:‏
(1) سلاسل متقطعة من الكلام.‏
(2) أبعاد بين المتكلم والمستمع.‏
(3) الموقف الدرامي الشخصي للمتكلم.‏
(4) التمييز بين الجنسين.‏
(5) التقسيم القائم بين الأفعال المتغيرة والأشياء الثابتة.‏
العامل الثاني من التغير اللغوي: هو أنه لكي نولد لغة جديدة شفهية كانت أو مكتوبة وبعيدة عن الواقع المألوف علينا كما يقول الكاتب إمرسون)) R. Emerson) أن نطور علاقة جديدة مع الطبيعة(7) .
العامل الثالث للتغيير: هو أن المجاز ينبغي أن يكون هدفه واستراتيجيته، أي الابتعاد عن المعيارية والمألوفية. وبعبارة دقيقة رؤية العالم المألوف في طريقة جديدة.‏
العامل الرابع: هو إمكان الاختيار الذي يمكن أن يحرف اللغة ويبدلها ويولد فيها معاني جديدة.‏
والواقع إن فلسفة الثبات والتغير في اللغة الشفهية واللغة المكتوبة ينبغي أن تعلمنا كيف نفكر حول اللغة على أنها نظام معرفي، وعالم منظور، وعقل آخر. من هنا فإن النتيجة التي يمكن أن يخرج بها الباحث هي أنه ينبغي أن نغير أنفسنا إلى قرّاء من خلال تخيلنا لعالم يمكن للغة أن تصوره وتعكسه وتتفاعل معه في الوقت نفسه.‏
إن كل نص أدبي شفهياً كان أم مكتوباً ينبغي عند قراءته أن يُمنح القانون الجوهري للنقد، والحياة المتناغمة مع الطبيعة، والحب الذي يبحث عن الحقيقة والفضيلة، ثم الرغبة التي تطهّر العين من أجل فهم جمالي يعكس العمق الإنساني ويطهره في الوقت نفسه.‏
هوامش:
(1) Bright, W. 1982 P:271-283). "Literature: Written and Oral". In: Tannen, Ded) 1982). Analyzing Discourse: Text and Talk. Ceorgetown University Press, Washington D.C.
(2) Goody, Jack 1977 P:116-120). The domestication of the savage mind. Cambridge University Press.
(3) Basham A.L 1954 P:387-388). The wonder that was India. New York: Grove.
(4) Renou, Louis 1954 P:144) La Grammaire de Panini. Fasc. 3. Paris: Klincksieck.
(5) Mclendon, S 1982 P:284-305). "Meaning, Rhetorical Structure, and Discourse Organization in Myth". In Tannen, Ded. 1982). Analyzing Discourse: Text and Talk. Georetown University Press, Washington D.C.
(6) Becker, Alton 1982 P:1-11). "On Emerson On Language". In Tannen, D 1982 ed) Analyzing Discourse: Text and Talk. Georgetown University Press. Washington D.C.
(7) Becker, Alton 1982 P:1-11). "On Emerson On Language". In Tannen, D 1982 ed). Analyzing Discourse: Text and Talk. Georgetown University Press. Washington D.C
***************************************************
مجلة الموقف الأدبي - مجلة أدبية شهرية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق - العدد 370 شباط 2002
نظرية تحليل الخطاب: النشأة والتطور والبناء ـــ الدكتور: مازن الوعر
مدخل‏
تتجه الدراسات اللسانية المعاصرة نحو دراسة الخطاب اللساني المنطوق والمكتوب على حد سواء. لقد بينت هذه الدراسات أن هناك فروقاً مهمة بين الخطاب المنطوق والخطاب المكتوب. إن الوظائف اللغوية التي تعمل في ذينك الخطابين هي وظائف تتحدد طبيعتها من خلال ارتباطها بعوامل تفرضها الأنظمة الكتابية والشفهية نفسها رغم وجود تداخل كبير بين هذه الأنظمة كلها. وهذا ما جعل الباحثين يركزون على العلاقات القائمة بين هذه الأنظمة الكتابية والشفهية من جهة وبينها وبين أنظمة العلوم المعرفية الأخرى من جهة ثانية.‏‏ وقد قادهم البحث في هذه الظواهر إلى محاولة بناء نظرية شمولية قادرة على تحليل الخطاب اللساني، تقوم على أسس علمية معروفة في بناء النظريات الفيزيائية. هذه النظرية يحب علماء اللسانيات الاجتماعية أن يكون لها أبعاد علمية وجمالية في الوقت نفسه لكي تستطيع أن تمس جوهر الطبيعة الإنسانية القابعة في أعماق الخطاب اللساني.‏
1-تصور مناهج الدراسة في اللسانيات الحديثة‏
على الرغم من انقضاء حوالي نصف قرن على دعوة اللساني البريطاني جفري فيرث‏  (J.Firth) الباحثين اللسانيين من أجل الالتفات إلى الجانب الكلامي في اللغة، لأنه حسب رأيه "المفتاح لفهم ماهية اللغة وكيفية عملها في الوقت نفسه"(1) إلا أن الدراسة الجدية للخطاب المنطوق ما زالت في بدايتها في حقل اللسانيات.‏ والواقع أن الدراسات الحالية للخطاب المنطوق لم تكن من صنع اللسانيين، بل كانت من الإسهامات التي قام بها علماء الاجتماع وعلماء الأجناس (الأنثروبولوجيا) وعلماء النفس والفلاسفة. وعلى الرغم من أن اللسانيين كلهم يوافقون على أن "الاتصال الإنساني" يجب أن يوصف من خلال مستويات ثلاثة: هي المعنى، والمبنى، والجوهر، إلا أنهم يختلفون حول حدود اللسانيات: من أين تبدأ؟ وأين تنتهي؟‏
لقد أكد ج. فيرث (1951) أن "الاهتمام الرئيسي للسانيات الوصفية تسجيل الحالات الدلالية للغة"(2). ولكن جزءاً مهماً من معنى الخطاب المنطوق هو نتيجة لتباين المستويين الصوتي والنحوي. ولكي نعزل التباين الدلالي في هذين المستويين علينا أن نستعمل اللغة استعمالاً نظامياً، ولكن شريطة أن يكون هذا الاستعمال لغواً وهراء وكلاماً فارغاً في كلا المستويين الصوتي والنحوي.‏
إذا وضعنا جملة مثل "ليشرب زيد ماء البحر" في هذين المستويين فإنها لا تفيد شيئاً... ولكننا إذا نقلناها إلى سياق معين فإنها ربما تفيد في ذلك السياق لتدل دلالة خطابية على شيء معين.‏
ويعني هذا أن فيرث يعتقد أن اللغة في جوهرها طريقة في السلوك وطريقة لجعل الآخرين يسلكون هذا السلوك. ويتبع هذا أن على اللساني أن يهتم باللغة في حالتها السياقية أو حسب مصطلح البلاغيين العرب "في حالتها المقامية". إن اللغة عند فيرث ذات دلالة عندما تكون فقط في سياقها أو مقامها.‏
ومن جهة أخرى نرى اللساني الأمريكي "ليونارد بلومفيلد" يقود البحث اللساني في اتجاه مخالف تقريباً. فقد وضع المعنى جانباً مركزاً بدلاً من ذلك على المبنى. وطبقاً لرأيه فإن اللساني لا يستطيع أن يعرف المعاني أو يحددها، لذلك عليه أن يستعين بباحثين ينتمون إلى علوم معرفية أخرى.(3)‏
إن مسألة المعنى عنده مسألة متشابكة تحتاج إلى تضافر جهود معرفية كثيرة لحل إشكالياتها... إن جملة مثل "أنا جائع" يمكن أن يستعملها متسول جائع يستجدي الطعام، ويمكن في الوقت نفسه أن يستعملها طفل عنيد مشاكس يريد أن يتأخر في الذهاب إلى المدرسة عند الصباح أو إلى النوم عند المساء.‏ لقد دافع "بلومفيلد" في كتابة اللغة عن وجهة النظر هذه مؤكداً على اهتمام اللساني بالصفات الصوتية والنحوية والمعجمية المتجلية في النطق الإنساني عامة. فهو لا يريد للساني أن يشرح كيف يمكن أن يكون لجملة واحدة وظائف سياقية مختلفة ولا كيف يمكن للمستمع أن يفك رموز الخطاب لمعرفة معناه.‏
لقد ركزت اللسانيات البنيوية في أمريكا بعد بلومفيلد على المشكلات المتعلقة بعلم الأصوات وبالوصف الصوتي للغات وبعلم الصرف وبالوصف الصرفي للغات البشرية، ولا سيما المفاهيم المتلعقة بالفونيم والوصف الفونيمي على نحو عام. أي ما يسمى بـ"أساليب الاكتشاف" (Discovery Procedures) التي تهتم بعزل الفونيمات والمورفيمات ثم لتحديد الآلي- الميكانيكي لحدود الفونيم ثم تصنيف الكلمات... الخ.‏
وعلى الرغم من أن "تشومسكي" اللساني الأمريكي كان قد أدار عجلة اللسانيات باتجاه دراسة الجملة، إلا أن الاهتمامات اللسانية في تلك الفترة كانت ما تزال منصبة على الوصف الشكلي للغات البشرية. يقول تشومسكي بهذا الصدد: "إن الهدف الأساسي للتحليل اللساني هو أن نعزل السلاسل النحوية التي تولد الجمل الصحيحة عن السلاسل غير النحوية التي تولد الجمل الخاطئة ثم أن ندرس البنية التركيبية لهذه السلاسل"(4).‏
ولكي يثبت تشومسكي استقلالية النحو عن المعنى فإنه قدم مثاله الشهير الذي ليس إلا كلاماً فارغاً غير ذي معنى، على الرغم من أن بناءه وترتيبه سليم قواعدياً.‏  "Colorless green ideas sleep furiasuly" الأحلام الخضراء العديمة اللون تنام بعنف.‏ لقد نقد تشومسكي التحليل اللساني السابق لأن مواد ذلك التحليل وعيناته، على الرغم من أنها كانت كبيرة، إلا أنها ليست ضرورية، ثم إنها لم تكن دقيقة وكافية... فهي لم تشمل أمثلة لكل البنى المحتملة في اللغة، أضف إلى ذلك أنها مواد خاطئة في مستوى الأداء اللغوي، وهذا الخطأ ناتج عن عوامل نحوية غير مناسبة كقصور الذاكرة، وشرود الذهن، والتبدلات في الانتباه والاهتمام، تلك العوامل التي تحصل عند الأشخاص الذين كنا قد حصلنا على المواد اللغوية منهم.‏ وعلى هذا فإن الاهتمام الرئيسي للنظرية اللسانية طبقاً لتشومسكي ينبغي أن ينصب على معرفة "المعرفة العميقة غير الظاهرة للمقدرة اللغوية الموجودة في الدماغ عند المتكلم والمستمع". تلك المقدرة التي يشترك فيها كل بني البشر، والتي يمكن للساني دراستها من خلال انعكاساتها في ِ"الأداء اللغوي" (الإنجاز).‏
والواقع أن الإسهام الذي حققه تشومسكي وأتباعه كان عظيماً في حقل اللسانيات، إلا أنه مع مرور الزمن بدأت المشكلة اللسانية تتفاقم لتصبح أكثر جدية ودراسة. فالمشكلة حسب رأي نقاد تشومسكي لا تكمن فقط في المفهوم المثالي للمقدرة اللغوية، وإنما تكمن أيضاً في نسبية هذا المفهوم. لذلك أصبح من الضروري أن نتحدث في اللسانيات التوليدية عن درجات القواعدية ودرجات القبولية في اللغة، فهناك أمثلة مهمة وحاسمة اعتبرت على أنها غير نحوية ولكنه تبين أنها "مقبولة في لهجتي أنا". وهكذا، وبمرور الزمن، فإن اللسانيين الاجتماعيين الأمريكيين (Sociolinguistis) في أواخر الستينات أمثال روز، ومكولي، ولايكوف، بدأوا يثبتون أن اللساني لا يستطيع أن يدرس النحو بمعزل عن المعنى. وطبقاً لرأي لايكوف (1972):‏
"لكي نعرف عمل قواعد لغوية عدة على نحو صحيح علينا أن نرجع إلى السياق الاجتماعي للغة، وكذلك إلى الخلفيات والافتراضات التي يضمنها المتحدثون المشاركون في الخطاب"(5).‏ وهكذا فإن نتائج البحث التجريبي "اللساني- الاجتماعي" دفعت عدة لسانيين في المدرسة التشومسكية لإدراك أهمية السياق ودفعتهم أيضاً لأن ينضموا إلى حقول معرفية أخرى تبحث في العملية الكلامية ضمن سياقاتها المختلفة.‏
2-المحاولات الأولى لتحليل الخطاب اللساني‏
على الرغم من أن فيرث، كان قد حث اللسانيين على دراسة اللغة في حالتها السياقية، إلا أنه هو نفسه لم يحقق هذا الهدف، وقد اختار بدلاً منه حقل الصوتيات. ومن يتتبع المحاولات الأولى لتحليل الخطاب سوف يجد أن هناك محاولتين معزولتين لدراسة مستوى ما فوق الجملة. الأولى قام بها اللساني الأمريكي "زيلغ هاريس" الذي اعتمد في محاولته على النص المكتوب. والثانية قام بها اللساني "ف. ميتشال" الذي اعتمد على النصوص المنطوقة.‏ والحقيقة، على الرغم من أن مقالة هاريس تحمل عنواناً مثيراً هو: "تحليل الخطاب"‏ (Discourse Analysis) إلا أنها لم تخرج عن إطار المدرسة البنيوية- البلومفيلدية، ذلك أن هدف هاريس كان صياغة أسلوب شكلي من أجل تحليل الاتصال المنطوق والمكتوب.‏
لقد لاحظ هاريس من خلال استقرائه النحو أنه من الممكن أن نضع مجموعات من الكلمات ونوزعها بانتظام لننتج بالتالي مجموعة من الصفات (ص) التي تحدث قبل مجموعة الأسماء (س) بالانكليزية، وقد اقترح هاريس أيضاً أن التحليل التوزيعي (Distributive Analysis) يمكن أن يطبق بنجاح على النص كله وذلك لاكتشاف البنية التي تقع فوق بنية الجملة. وقد استشهد على ذلك بنص يحوي الجمل الأربع التالية(6):‏
(1) تتغير/ الأشجار/ هنا/ حوالي/ منتصف/ الخريف.‏
(2) تتغير/ الأشجار/ هنا/ حوالي/ نهاية/ تشرين الأول.‏
(3) يظهر/ الصقيع الأول/ بعد منتصف/ الخريف.‏
(4) نبدأ/ بالتدفئة/ بعد نهاية/ تشرين الأول.‏
إن الهدف من التحليل التوزيعي هنا أن نعزل وحدات النص على نحو متساوٍ على الرغم من أنها ليستب بالضرورة متشابهة في المعنى. يمكننا أن نؤسس من الجملتين الأولى والثانية المعادلتين التاليتين:‏
/منتصف الخريف/ = /نهاية تشرين الأول/.‏
لا يتم تأسيس المعادلتين على أساس أنهما متساويتان في المعنى، ولكن على أساس أن سياقهما متساوٍ، أي: /تتغير الأشجار هنا/.‏
أما الخطوة التالية فهي أن نستمر في توزيع الوحدات المتعادلة من الجملتين الثالثة والرابعة لكي نعادلهما مع الوحدات الموجودة في الجملة الأولى والثانية. وهكذا يمكننا أن نساوي بين:‏
/يظهر الصقيع الأول/ مع /نبدأ التدفئة/.‏
وبين الجملتين السابقتين مع /تتغير الأشجار هنا/.‏
والنتيجة من هذا التعادل هو أن كل الجمل الأربع لها بنية متماثلة، أي أن مجموعة X متبوعة بمجموعة Y. وهكذا يستمر التحليل والتوزيع في النص كله على هذه الطريقة.‏
لقد أشار هاريس إلى أنه في حالة تقييم المنهج الذي اتبعه، فإن السؤال الذي يمكن أن ينهض ضده يتلخص فيما إذا كان الأسلوب أسلوباً عملياً أو فيما إذا كان يقود إلى نتائج صحيحة ومهمة!؟.‏
والواقع لقد ظل هذا المنهج محصوراً بكاتبه، إذ لم يحاول أحد تطويره وربما كان السبب أن النتائج التي أفرزها لم تكن مهمة. فقد لاحظ هاريس نفسه أن هناك صعوبة في تطبيق هذا المنهج على مستوى ما فوق الجملة، ذلك لأن الضوابط التي تتحكم ببنية ما فوق الجملة هي ضوابط أسلوبية وليست ضوابط نحوية، وهذا يعني أنه لا يمكن تفسير هذه الضوابط إلا من خلال المكون الدلالي.‏
والحقيقة أن الإرهاصات الدلالية في تحليل الخطاب جاءت على يد اللساني "ف. ميتشال" في مقالته "الشراء والبيع في قورنية"(7). فقد حدد في هذه المقالة طبيعة السياق وعناصره، كما حدد المشاركين المناسبين في هذا السياق. وقد قسّم عملية البيع والشراء إلى مراحل معتمداً بذلك على معايير دلالية محضة، تستند إلى مقولات رئيسية ثلاث:‏
(1)البيع في المزاد العلني.‏
(2)التعاملات التجارية الأخرى.‏
(3)التعاملات في المحلات.‏
وتشترك كل هذه المقولات بالمراحل الخمس التالية:‏
-التحية.‏
-المعرفة الدالة على موضوع البيع.‏
-البحث عن موضوع البيع.‏
-المساومة.‏
-النتيجة.‏
إن هذه المراحل تمثل البنية المثالية لعملية البيع والشراء، ولكننا نجد في بعض الأحيان، أن المرحلتين الأولى والثانية لا تحدثان، ثم إن المرحلتين الثالثة والخامسة يمكن أن تدركا دون استعمال اللغة.‏
لقد قدم ف. ميتشال المثال التالي:‏
-المشتري : هل عندك سرير للبيع؟ /مرحلة 2‏
-البائع : عندي واحد ولكنه غالي الثمن. /مرحلة 2‏
-المشتري : دعني أره إذن. /مرحلة 2‏
-البائع : بالتأكيد، إذا أردته لنفسك فسوف أخفّض لك السعر. /مرحلة 4
-المشتري : كم ثمنه؟ /مرحلة 4‏
-البائع : 4 جنيهات. /مرحلة 4‏
-المشتري : وما هو السعر النهائي؟ /مرحلة 4‏
-البائع : صدقني لو كان واحد غيرك لقلت له 5 جنيهات ونصف. /مرحلة 4‏
-المشتري : سوف أحدد سعره بثلاثة جنيهات ونصف. /مرحلة 4‏
-البائع : هذا غير ممكن. دعه في مكانه. /مرحلة 4‏
-المشتري : اسمع، سوف آتي بعد الظهر، وأدفع لك ثلاث جنيهات وسبعين سنتيماً وآخذه./مرحلة 4‏
( يتجه المشتري إلى مخرج المحل)‏
-البائع : ما زال السعر يحتاج إلى زيادة. /مرحلة 5‏
على الرغم من أن هذا التحليل يحدد بنية البيع والشراء إلا أنه ليس تحليلاً لسانياً، ذلك لأن هذه المراحل حددت وأُدركت من خلال النشاط الذي يحدث فيها وليس من خلال الصفات اللسانية المتميزة على الرغم من تقديم بعض الأمثلة على هذه المراحل كالعبارات والتراكيب اللغوية التي هي مجموعة من الطقوس الدينية التي تحدث ضمن هذه المراحل.‏
والواقع أن أي نص منطوق ينبغي أن يحلل طبقاً لأربعة مستويات رئيسية:‏
(1)المستوى الصوتي.‏
(2)المستوى النحوي (التركيبي).‏
(3)المستوى الحواري (المحادثة)‏
(4)المستوى السيميائي.‏
فكل بنية في مستوى من هذه المستويات يمكن التعبير عنها من خلال وحدات صغرى ينضم بعضها إلى بعض لتشكل وحدات كبرى ولا سيما في المستوى الصوتي والمستوى النحوي اللذين أشبعا بحثاً ودراسة من اللسانيين أنفسهم. أما المستوى الخطابي (الحواري- السيميائي) فليس هناك تعريفات محددة له لأنه لم يشبع دراسة واستقصاء، فقليل هم أولئك الذين يتفقون على تحديد بنية الخطاب.‏
والواقع أن ما ينقص تحليل ميتشال هو أن وصفه لهذه المراحل كان وصفاً غير لساني. فنحن نستطيع أن نصف بنية الخطاب هنا بشيء من العمق. فالمثالان في المرحلة (2) يتألفان من سلسلة من أزواج السؤال- والجواب. ثم إن التحية عندما تحدث في الخطاب يسهم المتحدث والمستمع فيها. إن القيود المفروضة على المتكلم الثاني لا يمكن أن يعبّر عنها بمصطلح نحوي، فالشكل اللساني للنطق غير مناسب هنا. إن ما هو مهم (بنيوياً) وظيفته اللسانية، وهذا شاهد يبين وجود مستوى آخر وهو مستوى الخطاب الذي يكشف لنا التنظيم النحوي والتنظيم غير اللساني.‏
3-الوظائف اللغوية‏ في الخطاب اللساني‏
لكي نعرف طبيعة الخطاب بدقة ونتأكد من أنه لا يتألف من سلسلة من الجمل المصوغة صياغة نحوية جيدة فحسب نقدم بعض الأمثلة التي اقترحها لابوف (1970) والتي هي عبارة عن جمل نحوية جيدة ولكن جزءاً مهماً كان ينقصها أخلّ بمفهوم الخطاب(8):‏
أ.ما اسمك؟‏
ب.حسناً، دعنا نقل إنك قد فكرت أن لك شيئاً ما من قبل ولكنك لم تحصل عليه بعد ذلك.‏
أ.سأدعوك العميد.‏
أ.أشعر بالحرّ الشديد اليوم.‏
ب.لا.‏
من الواضح أن (ب) خرق القواعد التي تنتج الخطاب المنسجم. إن هدف تحليل الخطاب معرفة وكشف هذه القواعد التي تصف كيفية حدوث الوحدات وكيفية تركيبها.‏
وفي بحث آخر نجد "لابوف" (1972) يؤكد أن الخطوة الأولى الأكثر أهمية في تحليل الخطاب هي أن نميز "ماذا قيل" عن "ماذا فُعل"، أي أن تحليل الخطاب يجب أن يهتم بالاستعمال الوظيفي للغة(9). هذا المفهوم يجعل الوحدة اللغوية المحللة تخرج عن نطاق الجملة لتشكل ما يسميه اللساني الأمريكي هايمز "الفعل الكلامي" أو "الحدث الكلامي". وقد أكد هايمز أن "الفعل الكلامي" يمثل مستوى يتميز عن مستوى الجملة ولا يمكن معرفته وتحديده من خلال مستوى النحو(10).‏
والواقع على الرغم من أن العلاقات بين الوحدات اللغوية للخطاب تعتمد على الوظائف التي تقوم بها إلا أنه ليس هناك اتفاق جماعي حول عدد الوظائف هذه. فقد اقترح أوستين‏
(1962) أن هناك حوالي عشرة آلاف وظيفة(11). أما سنكلير (1972) فقد اقترح اثنتين وعشرين وظيفة(12). وأخيراً فإن سيرل (1969) اقترح عدداً من الوظائف يتوسط العددين المذكورين، واقترح أيضاً أن هناك وظائف يمكن أن يحل بعضها محل بعض(13).‏
لقد اعتبر لابوف (1972) وساكس وتشيكلوف (1972) وجفرسون (1973) النطق (الكلام) الوحدة الأساسية للتحليل. ولكن العمل في الأمثلة التالية جعلهم يشعرون بالحاجة إلى وحدة أصغر دعوها بـ"النقلة". ذلك أن النقلات يمكن أن تكون جنباً إلى جنب مع النطق كما هي الحال في المثال التالي الذي يحوي فيه العنصر (أ) نقلتين اثنتين:‏
أ.هل تستطيع أن تخبرني لماذا تأكل كل هذا الطعام؟‏
ب.من أجل أن يجعلك قوياً.‏
أ.من أجل أن يجعلك أنت قوياً. نعم من أجل أن يجعلك قوياً. لماذا تريد أن تكون قوياً؟‏
إن هذا المثال يدل على أن النطق (الكلام) ليس هو الوحدة الأساسية للتحليل اللساني. وهذا يلقي علينا سؤالاً يتعلق بحجم الوحدة اللغوية المرتبطة بالوظيفة. فبعض هذه الوحدات يُفهم من خلال طول الكلام ونقلاته، وبعضها يُفهم من خلال سلسلة الكلام.‏
كيف يمكننا إدراك الوظائف اللغوية من خلال أشكالها؟ ما هي العلاقة مثلاً بين شكل "الطلب" وشكل "السؤال" أو بعض الخيارات النحوية المتاحة للمتكلم؟‏
هناك بعض المحللين أمثال ساكس وتشيكلوف يعتقدون أن معرفة هذه الوظائف تتم عن طريق أوصافها وعلى نحو حدسي. ولكن آخرين أمثال لابوف يعتقدون أنه لا بد أن يكون هناك قواعد معينة من أجل شرح كيف يمكن لبنية نحوية معجمية معينة أن تدرك وظيفة ما في حالة معينة؟.‏
4-صياغة الخطاب اللساني:‏
رأينا سابقاً أن اللساني ج. فيرث كان قد أثبت الحاجة إلى وصف النص وتحليله. كما أن اللساني ن. تشومسكي كان قد أثبت أنه ينبغي الاعتماد على الحدس (الذهن). ويقترح جان ليونز (1968) أن هناك ثلاث مراحل من التجريد بين المواد اللغوية الخام والمواد اللغوية المصوغة (بمفهوم المقدرة اللغوية عند تشومسكي):‏
المرحلة التنظيمية:‏
وفيها يتجاهل المحلل ظواهر معينة مثل زلات اللسان، والترددات والتكرار والتصحيحات التي يجربها الشخص على نفسه... الخ.‏
المرحلة المعيارية:‏
وفيها يتجاهل المحلل التنوع، ويعالج فقط المواد التي يمتحنها والتي تشكل تجانساً في التكوين. ففي مستوى الصرف تعالج التعبيرات المختلفة لنفس الكلمة كما لو أنها واحدة. وفي مستوى الخطاب تعتبر التنوعات في السلسلة التي يُساء فهمها كلها حدوثاً لنفس الوحدة. على أية حال، ليس هناك اتفاق بين اللسانيين على درجة المعيارية وكمية التنوع الذي يمكن أن يوصف وصفاً ناجحاً.‏
المرحلة السياقية:‏
وفيها يتم فصل الجمل عن سياقاتها ومعالجتها على أنها وحدات معزولة(14).‏
والواقع أن عمل الفلاسفة حول الأفعال الكلامية يعتمد تماماً على المواد التي فُكَّت من سياقاتها، وعلى المواد التي لا تعتمد على الجمل التي قبلها أو بعدها. وبكلمة أخرى، ليس هناك اهتمام بالتداخل حتى في مستوى التجريد.‏
أما النحاة فهم يهتمون بقواعد الجمل وطريقة استعمالها. وهذا يختلف عن محللي الخطاب الذين يهتمون بطرائق الاستعمال اللغوي نفسه، تلك الطرائق التي تصف كيفية صياغة الأفعال الاجتماعية، وكيفية اجتماع الجمل مع بعضها بعضاً لتصوغ النصوص من خلال الروابط التي هي مظاهر للالتحام والتماسك النحوي. أضف إلى ذلك أن مهمة محللي الخطاب معرفة كيفية اجتماع النصوص بعضها مع بعض لتشكل الخطاب. إن العلاقات القائمة بين هذه النصوص من خلال روابط معينة يدلنا على التماسك المنطقي الذي يجمعها.‏
5-نحو بناء نظرية لتحليل الخطاب اللساني:‏
تقول الباحثة اللسانية الأمريكية ديبورا تانن (D. Tannen 1982) إن مصطلحي النص‏  (Text) والحديث (Talk) مفهومان منفصلان في نظرية تحليل الخطاب. يقصد بالنص النثر المكتوب، ويقصد بالحديث الكلام المنطوق. هذا هو الاستعمال الشائع لهذين المفهومين، إلا أن مصطلح النص في بعض الأحيان يستعمل محل مصطلح الخطاب (Discourse) والعكس صحيح(15). والواقع أن مصطلح الخطاب يستعمل في طرائق مختلفة ليدل على أي شيء يقع خارج إطار مفهوم الجملة (Sentence) سواء أكان ذلك كتابة أم محادثة. ذلك أن الكتابة والمحادثة وجهان يتداخلان أحدهما مع الآخر ليشكلا كينونة واحدة كما تذهب إلى ذلك تانن.‏
وهكذا ينبغي على اللساني حسب رأيها ألا يفكر بأن اللغة المنطوقة واللغة المكتوبة لغتان منفصلتان، بمعنى أن النص هو كل شيء مكتوب والحديث هو كل كلام منطوق. إن الصفات التي تسم اللغة المنطوقة والمكتوبة يمكن أن تجتمع معاً في خطاب واحد سواء أكان منطوقاً أم مكتوباً.‏
فالباحث اللساني وليم برايت (W. Bright 1982) بيّن أن الخطاب المنطوق يستعمل علامات النظم التي تسم عادة الخطاب الشعري المكتوب(16). وقد بيّن أيضاً اللساني والس تشيف (W. Chaif 1981)  أن اللغة المنطوقة لقبيلة سينيكا الهندية- الأمريكية تشترك مع اللغة المكتوبة في صفات عدة(17). وأخيراً وليس آخراً اكتشفت تانن (1982) أن القصص الأدبية المكتوبة تظهر صفات عدة يتوقع حدوثها في الكلام المنطوق(18).‏
والواقع أن الهدف الأول والأخير الذي يسعى إليه اللسانيون من خلال تحليل أشكال الخطاب كافة معرفة ماهية المبنى والمعنى في الخطاب وكيفية عملهما لخلق التجانس والتماسك والترابط المنطقي في ذلك الخطاب، وبمعنى أدق: معرفة كيفية وضع الناس للكلمات بعضها مع بعض وكيفية جمع كلمات معينة لتوليد المعاني. وباختصار: معرفة الجهاز الذي يجعل الكلمات المفردة المنفرطة تشكل خطاباً.‏
إن قضية تحليل الخطاب تجعلنا نتساءل عن ماهية كشف ما في العالم وكيفية البرهنة على ما قد يكتشفه الإنسان. إلى أية درجة علمية مثلاً يمكن أن ندرس اللغة؟... وإلى أية درجة نستطيع أن نؤوّل أيضاً؟ هل الأساليب العلمية الرياضية الإحصائية ناجعة في دراسة اللغة وإلى أية درجة؟.‏
ينبغي على المرء في بعض الأحيان أن يتطلع إلى ما وراء الأطر والقوالب والتقنيات من أجل فهم العالم. وهذا بالضبط ما أثبته تحليل الخطاب بأنواعه المختلفة. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: إلى أي حدٍّ يمكن للسانيات أن تدّعي بأنها علم قائم برأسه وكيف؟ هل هذا العلم واحد من العلوم الطبيعية أو العلوم الإنسانية أو الفنون؟ إن نظرية تحليل الخطاب ودراسة اللغة في سياقاتها المعينة تطرحان تساؤلات عديدة معقدة وشائكة تتعلق بتعليل اللغة والبرهان على قوانينها ثم دور التأويل وطبيعته فيها.‏
الواقع أن المسألة هنا ليست مسألة اختيار بقدر ما هي مسألة تداخل الاختيارات. ففي مجال إثبات جودسون (1980) أن العلم هو فن نراه يقتبس كلمات بول ديراك (Paul Dirac) الفيزيائي الحائز على جائزة نوبل ليدعم ما كان قد أثبته. يقول ديراك:‏‏ "... أن يضع المرء معادلاته العلمية في إطار جمالي جذاب هو أكثر أهمية من أن يجعلها تناسب التجربة التي يقوم بها"(19).‏
العلم مثله مثل الفن في هذه الحالة، ذلك لأنه عندما يريد اكتشاف الصيغ والعلاقات القائمة بينها ليشرح ويعلل يهدف من هذا إلى فهم الجهد الإنساني الخلاق للعملية الإبداعية وفق قيود وشروط معينة. وهكذا ينبغي أن نفهم العمل اللساني العلمي بهذه الطريقة، إن اللساني يسعى دائماً لاكتشاف الصيغ اللغوية الخلاقة التي بدورها تعكس التجانس والتماسك والترابط المنطقي في المادة المدروسة، سواء أكانت منطوقة أم مكتوبة. بالإضافة إلى أن اللسانيات مبنية على العلم، إلا أنها تهتم أيضاً بالجمال المخبأ، ذلك لأن الجمال كما يقول آلتون بيكر (A. Becker 1979) هو الحس الذي ينبثق من التجانس والتماسك المنطقي(20).‏
إن النتيجة التي يتوصل إليها الباحث اللساني على نحو جمالي من خلال دراسته لنص معين تعد في طبيعتها اكتشافاً للمبادئ المتجانسة والمتماسكة التي تؤسس ذلك النص المدروس. إن دراسة الخطاب هي كشف لهذا التجانس والجمال المتجسد في السلسلة المتعاقبة من الكلمات، وهي كشف للقوة السحرية الغامضة التي تتغلغل بين هذه الكلمات وتشعُّ بالأفكار والصور والعواطف.‏
والحقيقة يسعى كل الباحثين المهتمين بتحليل الخطاب (على اختلاف اختصاصاتهم في اللسانيات أو الأدب أو الرياضيات أو الأنثروبولوجيا... الخ) إلى تحقيق هدف واحد: هو كشف الأبنية والصيغ والعلاقات القائمة في لغة من اللغات. وطبقاً لرأي اللسانية الأمريكية تانن، إن هذه المهنة هي مهنة إنسانية مناسبة وأنيقة وهي مهنة نظرية وتجريبية بل وحتى جمالية(21).‏
من الموضوعات التي تهتم بها نظرية تحليل الخطاب ما يلي:‏
(1)تقويم المهارة الشفهية.‏
(2)استثمار نتائج تحليل الخطاب وتطبيقها على العملية التعليمية ولا سيما في حقل المناهج وأصول التدريس.‏
(3)تصميم نماذج شكلية كافية للخطاب الطبيعي.‏
(4)الصمت ووظائفه.‏
(5)الوظائف النفعية للخطاب.‏
(6)اللغة المنطوقة واللغة المكتوبة والفروق القائمة بينهما.‏
(7)الكتابة وأثرها في تنمية الإدراك.‏
(8)الأمراض الكلامية وأنموذج الحديث الواضح.‏
(9)مناهج تحليل الخطاب لفهم مهارة القراءة.‏
(10)تحليل الخطاب وعلاقته بالترجمة والتأويل.‏
والواقع أن كل هذه الحقول المعرفية التي تعمل فيها نظرية تحليل الخطاب تعني شيئاً واحداً يتلخص في أن اللسانيات (Linguistics) من خلال اقترابها من اللغة علمياً وجمالياً تسعى إلى معرفة الجوهر الإنساني القابع في أعماق الخطاب اللساني.‏
هوامش:
(1) Firth, J. (1957 p:7-33). “The Technique of Semantics” in: papers in Linguistics 1934-1951. London. O, u, p.
(2) Ibid. (1957 p. 7-33).
(3) Bloomfield, L (1933) language. New York, Holt, Renihart.
(4) Chomsky, N (1957) Syntactic Structure. The Hague, mounton.
(5) Lakoff, R (1972 p: 907-927) “Language in context” in: Language 48/4.
(6) Harris, Z (1952 p: 1-30) “Discourse Analysis” In Language. No 28.
(7) Mitchell, F (1957 p: 31-71). “The language of buying and selling in Cyrenaica”. In Hesperis no 44.
(8) Labov, W (1970 P: 30-87). “The study of language in tis social context”. In studium General. no 23.
(9) Labov, W (1972 P: 120-169). “Rules for ritual insults”. In studies in social interaction New York, free press.
(10) Hymes, D (1972 P: 35-71). “Models of the interaction of language and social life”. In Gumperz, J and Hymes, D (eds). Directions in sociolinguistics. New York. Holt, Renihart and Winston.
(11) Austin, L (1962). How to do things with words. Oxford, clarendon press.
(12) Singlair, McH- Forsyth, J- Couthard, M- and Ashby, C (1972). “The English used by Teachers and pupils”. Final Report to S.S.R.C. Mimeo, Birmingham University.
(13) Searl, R (1969). Speech Acts. London. C.U.P.
(14) Lyons, J (1968). An Introduction to Theoretical linguistics. London, C.U.P.
(15) Tannen, Deborah (1982 P: ix). Analyzing Discourse: Text and Talk (ed). Georgetown University Press Washington, D.C.
(16) Bright, W (1982 P: 271-281). “Literature: written and oral”. In Tannen, D (ed). Analyzing Discourse: Text and Talk. Georgetown University Press. Washington D.C.
(17) Tannen, D (1982 P: x) Analyzing Discourse: Text and Talk. (ed). Georgetown University Press, Washington D.C.
(18) Ibid (1982 P: x).
(19) Judson, Horace free land (1980 P: 11). The search for solutions. New York: Holt Rinehart Winston.
(20) Becker, Alton (1979 P: 211-243). “Text- building, epistemology and aesthetics in Javanese shadow theatre”. In The imiagination of reality. Edited by A. Becker and A. yengoyan. Norwood, N J: Ablex.
(21) Tannen, D (1982 P: xi) Analyzing Discourse: Text and Talk (ed). Georgetown University Press, Washington D.C.
***************************************

مجلة الموقف الأدبي - مجلة أدبية شهرية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق - العدد 385 آيار 2003
******
نظرية تحليل الخطاب واستقلالية نحو الجملة ـــ د.مازن الوعر
* مدخل:‏
يرى العالم اللساني "ج.مورغن" (J.Morgan1982)، أنه بعد التطورات التي حصلت على صعيد تحليل الخطاب وعلى صعيد النحو التوليدي فإن السؤال الذي يثار هو: ماهي العلاقة القائمة بين الأنظمة الذهنية التي تمكّن المقدرة الإنسانية من الفهم وإنتاج الخطاب وبين نظرية النحو التوليدي التي تتخذ الجملة منطلقاً للتحليل اللساني؟...‏
سوف نمتحن هنا النقد الذي وجهته نظرية تحليل الخطاب إلى نحو الجملة لنرى فيما إذا كان هذا النقد مقنعاً أم لا.‏
من يرجع إلى أدبيات نظرية تحليل الخطاب ولاسيما عند "فان ديك" (V.Dijk. 1972) و"دي بوغراند (Be Beaugrand 1980)، و"جيفون" (Givon 1980) فسيجد أن هذه الدراسات تظهر أن "نحو الجملة" هو نحو ناقص وضعيف وبالتالي غير صحيح(1).‏
والواقع أن هذه الدراسات تدعي نقدين اثنين: أحدهما صحيح والآخر خاطئ. الادعاء الخاطئ والضعيف يذهب إلى أن هناك بعض الحقائق حول الخطاب تظهر أن "نحو الجملة" التوليدي غير صحيح في فرضياته النحوية والدلالية.‏
أما الادعاء الصحيح والقوي فيقول إن نظرية تحليل الخطاب يمكنها أن تعمل عمل نظرية "نحو الجملة" التوليدي، وبهذا فإن هذا النحو سيكون غير ضروري كمكون للمقدرة الإنسانية. سنبين هنا أن الحجج والبراهين المستخدمة لإظهار الوضع الضعيف لـ"نحو الجملة" ليست قوية ذلك لأن نظرية تحليل الخطاب قد أغفلت الجوانب القوية في نظرية "نحو الجملة". وسنبين أيضاً أن الحجج والبراهين المستخدمة من أجل إظهار الوضع القوي لنظرية تحليل الخطاب ـ على الرغم من أنه غير مقنع في أشكاله الحالية ـ هو واعد ومهم.‏
1 ـ الوضع الضعيف والقوي لـ"نحو الجملة" التوليدي:‏
إن الحجج والبراهين المستخدمة ضد "نحو الجملة" تدل على أنها تريد أن تتجنب على نحو كامل "نحو الجملة" لصالح نظريات أخرى، لذلك من المفيد أن نسجل المزايا الرئيسية لـ"نحو الجملة" بموضوعية تامة.‏
أ ـ استقلالية "نحو الجملة" التوليدي:‏
إن المقدرة اللسانية (Linguistic Competence) تتضمن نظاماً إدراكياً يكون محركه "الجملة". إن حقيقة أن هذا النظام يتداخل مع بقية أنظمة إدراكية أخرى في مستوى الأداء اللساني (Linguistic Performance)، ليست حجة قوية ضد الادعاء القائل أن هذا النظام الإدراكي هو نظام مستقل.‏
ب ـ تفرد النظام اللغوي:‏
الواقع أن بعض وجوه النظام الإدراكي مختصة باللغة وحدها فقط، وليست موجودة في بقية الأنظمة الإدراكية الأخرى.‏
ج ـ "نحو الجملة" شكلاني:‏
إن قواعد النحو التوليدي هي قواعد شكلية (Formal) لا علاقة لها بالنظام الاتصالي أو الاستعمالات الأخرى للغة.‏
د ـ بنية "نحو الجملة" بنية تشومسكية:‏
أي أن معالجة تركيب الجملة مأخوذة من قواعد توليدية ـ مركبية وضعها اللساني الأمريكي تشومسكي. أي أنها قواعد مقولبة ومحددة.‏
هـ ـ هناك أكثر من مستوى واحد للتركيب:‏
النحو التوليدي يتطلب تحليل الجملة في مستويين اثنين: مستوى البنية السطحية ومستوى البنية العميقة.‏
والواقع أن هذه المزايا الخمس يجب ألاَّ تفرّغ "نحو الجملة" التوليدي من مضمونه، ذلك أن ما يقوم به تشومسكي الآن أغنى بكثير من هذه المزايا. فليس هناك إجماع على هذه الصفات الخمس ضمن معسكر نظرية النحو التوليدي. فالميزتان (د) و(هـ) موضع جدال ولاسيما عند جونسون وبوستال (1985)، وفي رأي مورغن أن المزايا من (أ ـ ج) مناسبة لنقد "نحو الجملة" التوليدي.‏
إن الحجة التي تستخدمها نظرية تحليل الخطاب من أن الوحدة الطبيعية للتحليل اللساني هي النص وليست الجملة... أقول إن هذه الحجة تظل بعيدة عن الإقناع، ذلك أنه يمكننا أن نكتشف استقلالية الجملة ضمن تحليلنا للنص.‏
أما الحجة القائلة بأن "نحو الجملة" غير قادر على تقديم تحليل للظواهر ذات الوجوه المتعددة إنما هي حجة قابلة لأكثر من معنى. فإما أن تعني أنها حجة على أن الجملة غير تامة ومستقلة، وإما أن تعني أنها حجة ضد مزية من المزايا الثلاث الأولى لنحو الجملة.‏
لقد بيّن فان ديك (1972) أن "نحو الجملة" غير تام لأنه لا يستطيع تحليل ظواهر خطابية معينة(2). ولكن هذا النقد يتجاهل الموضوع الرئيسي لـ"نحو الجملة"، ذلك أن القواعد التوليدية إنما بنيت على فرضيات مهمة جداً (نظرياً وتجريبياً).‏
وهكذا فإن الحجج من هذا النوع ضد "نحو الجملة" ليست قوية. ذلك لأن "تحليل الخطاب هو شرح لنحو الجملة، وبذلك فإن تحليل الخطاب وتحليل الجملة يشتركان في تحليل مواد لغوية ذات صفات مشتركة منها:‏
1 ـ إن كلا النظريتين تحللان "البنية"، ذلك أن لكل من الخطاب والجملة "بنية"‏
(Structure) لذلك يمكننا اقتراح "نحو" للخطاب من أجل توليد النصوص ومن ثم وضعها في بنية.‏
وهكذا نستطيع أن نصمم أنموذجاً لـ"نحو" واحد يعالج بنية الجملة وبنية النص من خلال توسيع وتطوير النظام الذي يحدد بنية الخطاب.‏
2 ـ أن النصوص ـ مثلها مثل الجمل ـ ذات معنى. لقد أثبت دي بوغراند (1980) أن العلاقات الدلالية القائمة في الجملة يمكن أن تقوم أيضاً بين الجمل في نص ما.‏
3 ـ العلاقات الإحالية، كما أنها يمكن أن تكون بين العناصر ضمن الجملة، يمكنها أن تكون ضمن العناصر في جملتين منفصلتين في النص. وهذا يستدعي وجود معالجة نحوية واحدة لكلتا الحالتين.‏
إن نظرية تحليل الخطاب تنتقد نظرية "نحو الجملة" على أساس أن هناك شروحات خطابية من أجل حقائق نحوية. ولكن نظرية "نحو الجملة" يمكن أن تردّ بأن هناك شروحات خطابية تظهر أن المشكلة ليست نحوية.‏
والخلاصة، ليست هذه البراهين ضد "نحو الجملة" مقنعة، لذلك من الأفضل أن يأخذ المؤيدون لـ "نحو الجملة" هذه الملاحظات لتطوير نظريتهم على أساس تجريبي.‏
2 ـ الوضع القوي والضعيف لنظرية تحليل الخطاب:
إن البرهان القوي في نظرية تحليل الخطاب هو أن هذه النظرية يمكنها تصنيف "نحو الجملة" ضمن نحوها العام أو يمكنها أن تعدّل وتطوّر "نحو الجملة" من وجهة نظر تحليل الخطاب.‏
ولكن إذا أرادت "نظرية تحليل الخطاب" فعل هذا فينبغي أن تقدم البديل الذي يعالج نحو الخطاب على نحو عام، بحيث تكون هذه النظرية مضبوطة وموضوعية، بحيث يمكن لهذه النظرية أن تقدم شرحاً لظواهر تعتبر أساسية في "نحو الجملة". وبعبارة دقيقة يجب أن تكون نظرية كافية وشافية وكلية ودقيقة بحيث تتضمّن كل ما هو إيجابي في "نحو الجملة" وكل ما هو متطور في "نحو النص".‏
وطبقاً لرأي مورغن (1982)، ليس هناك حتى الآن نظرية لتحليل الخطاب من هذا النوع، ذلك لأن مثل هذه النظرية متعلقة بالأنظمة العجيبة و المعقدة للذهن البشري والتي تتحكم بمقدرتنا على إنتاج الخطاب وفهمه وقراءته في الوقت نفسه.‏
من المفاهيم القوية التي تقدمها نظرية تحليل الخطاب مفهوم "المقدرة الاتصالية":‏
فقد بحث جان جمبرز (John Gumperz 1982) في التغيرات التي تحدث في الحديث والتي تعلمنا الخلفية اللسانية والثقافية والاجتماعية ثم السياقية المتفاعلة فيما بينها من أجل التفسير والتأويل(3).‏
وقد اقترح جمبرز نتيجة لذلك مصطلحاً كان قد قدمه دل هايمز (D.Hymes 1972)، وهو "المقدرة الاتصالية" (Communicative Competence )، التي تعني أننا يجب أن نتجاوز وصف الصيغ المستعملة في اللغة لنركز على وجوه المعرفة المشتركة بين المتكلم و السامع ثم على الاستعدادات الإدراكية لكلا الطرفين.‏
ذلك أن فهم الاتصال هو أساسي من أجل إنشاء نظرية عامة للإجراءات الاجتماعية والسياسية على حد تعبير العالم الاجتماعي الأوروبي جورجين هابرمس (J.Habermas)، الذي دعا إلى نظرية "للمقدرة الاتصالية" تحدد بدورها "الشروط والضوابط العالمية لعملية الفهم المحتمل ـ الممكن". فكما أن المجموعات الإنسانية تختلف في بنيتها اللغوية فإنها تختلف أيضاً في تفرعاتها النحوية ورموزها اللسانية والسياقية. لذا لابد من معرفة هذه المصادر لمعرفة ما يريد الأفراد تحقيقه في الحياة اليومية.‏
والواقع يمكننا شرح المواد اللغوية المستعملة في الحياة اليومية من خلال رجوعنا إلى الحقائق السلوكية الجارية بين الأم وطفلها. وبمعنى آخر نريد أن نعرف طبيعة السياق الذي يتخيله المتكلم من أجل أن يضع جملته فيه.‏
من هنا فإن الفصل بين ماهو لغوي‏
(Linguistic) وماهو فوق اللغوي‏
(Extralinguistic) أصبح لا مبرر له على الإطلاق.. إذ لا يمكننا ـ في تحليل الخطاب ـ أن نفصل اللغة عن الثقافة (Culture) ولا يمكن أن نفصل اللغة عن السياق (Context).
من هنا فإن جمبرز (Gumperz) يدعو إلى منهج يستطيع أن يربط محددات التأويل السياقي بالاستعدادات الإنسانية من أجل الدخول إلى عالم الخطاب.‏
لذلك فقد اقترح تعديلاً في تعريف "المقدرة الاتصالية" ليصبح كالتالي:‏
"المعرفة الاتصالية هي معرفة الأدوات اللسانية ـ والاتصالية التي يملكها المتكلمون والمستمعون من أجل أن يخلقوا حالة معينة تمكنهم من الانخراط في الحديث لجعله مستمراً".‏
إن الانخراط في الحديث هو شرط أساسي لفهم الخطاب، فقد أثبتت نظرية الخطاب أن هناك تنوعاً في حالات الكلام في المجتمعات... حيث أن المتكلمين يبنون النقيض بين نظامين نحويين منفصلين من أجل أن يقدموا معلومات متواصلة تُنقل عن طريق أدوات نحوية لنظام منفرد.‏
وقد أثبتت نظرية تحليل الخطاب أن المشاركين في الحديث ينبغي ألاَّ يتفقوا على ما سوف يجري في الخطاب (الحديث) بل ينبغي أن يتركوا الحديث يتطور وينمو من خلال السياق... إنَّ الأحاديث الناجحة هي التي تثبت في نهاية المطاف أن المتحاورين حولها لا يتفقون في نهاية الحديث. من هنا لابد من ربط النظام النحوي للغة بالوجوه المختلفة للمعنى وعدم ربطه بمعنى جملة منفردة بنفسها.‏
والواقع من الصعب أن نشتق قواعد من خلال تحليل نص معين... ولكن يمكن أن نسجل حالات معينة. فمثلاً يمكننا تسجيل وظائف السؤال. ويمكننا أن نقول إن السؤال من الناحية الدلالية يرتبط بالطلب... ذلك أن هناك عدداً من السياقات التي يمكن فيها للأسئلة أن تفسر على أنها طلب. أي أن صيغة السؤال وشكله عبارة عن "سؤال"، ولكن وظيفة السؤال ومعناه عبارة عن "طلب".‏
وهذا يعني أنه بالإضافة إلى أدوات التحليل اللساني (الصوتيات والنحويات والدلاليات) يمكننا أن نضيف أداة أخرى لمعرفة ما يجري في عالم النص تتلخص بـ"فهمنا لكيفية عمل هذه الأركان الصوتية والنحوية والدلالية". إن فهم كيفية عمل هذه الأركان ضروري ومهم جداً لصياغة أية نظرية حول "المقدرة الاتصالية".‏
لقد أثبتت نظرية تحليل الخطاب أن "تبادل الأدوار في المحادثة"، شيء ضروري وأساسي في العملية الاتصالية. ويتم هذا عادة من خلال إعطاء إشارات معينة من المتكلم لزميله الآخر المستمع تشعره بأن المتكلم سيتوقف عن الحديث ليأخذ هو دوره فيه. وقد أثبتت نظرية تحليل الخطاب أن "الإيقاعية الاتصالية" (أي أن المشاركين يأخذون أدوارهم بإيقاعية منتظمة)، مهمة جداً لجعل الحديث مستمراً ومتنقلاً بانتظام من فرد إلى آخر.‏
والواقع أن تفسير الخطاب وتأويله لا يتم من خلال مستوى واحد بل لابد من معرفة مستويات عديدة لمعرفة دلالته ومعانيه. من هذه المستويات المستوى العروضي، والمستوى الصوتي، والمستوى النحوي التركيبي، والمستوى المعجمي، والمستوى الإيقاعي (القافية)، ومستوى بروز أو نتوء الصوت (طبقته) من أجل تسليط الضوء على معلومة من المعلومات بعينها في سياق الحديث، ثم المستوى الاستراتيجي (اختيار استراتيجية معينة للخطاب).‏
لنأخذ مثالاً على ذلك طرائق واستراتيجيات معالجة وفهم الوثائق والعقود المكتوبة.‏
فقد أثبتت التجربة أن مثل هذه الأشكال المكتوبة تتطلب معالجة سريعة من المتلقي ولا تتطلب ذاكرة طويلة كما هو الشأن في نصوص أخرى.‏
من هنا تأتي أهمية مفهوم "القراءة الوظيفية السريعة"، للوثائق ذلك المفهوم الذي يختلف عن مفهوم "القراءة الاستماعية"، للقصص الأدبية.‏
لقد اكتشف محللو الخطاب وعلماء النفس معايير مهمة تساعد على فهم النص وإعادة الذاكرة التي كتبته منها:‏
1 ـ ا لارتباط والانسجام والتلاحم المتماسك بين الجمل الموجودة في البنية السطحية للنص.‏
2 ـ البنية المتضمنة معلومات جديدة في النص موزعة توزيعاً منتظماً على الجمل.‏
3 ـ العلاقات التناغمية والارتباط المنطقي والدلالي العميق بين الجمل.‏
4 ـ التنظيم النصي ينبغي أن يكون معتمداً على نوعية النص. أي أن قواعد النص ينبغي أن تلائم الأنماط الثقافية المتعارف عليها.‏
5 ـ القاعدة التي تمثل معتقدات الناس وترسم معرفة العالم. فلكي يكون النص مفهوماً يجب أن يحوي معلومات موجودة مسبقاً عند المتلقين. وهذه المعلومات عبارة عن أشكال تجريدية كلية ذات بنى مرنة تعرف بـ"القوالب أو المسكوكات" (Schemas) التي ينبغي أن تكون "قوالب ديناميكية"، كما تقترح اللسانية الأمريكية تانن‏
(1979). أي أن القارئ يستطيع أن يعمل على مستويات عديدة دفعة واحدة من خلال انتقاله من قالب إلى آخر من أجل تفسير النص.‏
6 ـ العقد الضمني بين الكاتب والمتلقي ذلك العقد الذي يشعر كلا الطرفين أن أحدهما قد اتفق مع الآخر من أجل هدف الإيصال والتوصيل.‏
إن التعاون بين الكاتب والمتلقي من أجل هدف الإيصال والتوصيل يعني حسب تعبير غريس (Grice. 1975) أن يكون الكاتب مناسباً وواضحاً وصادقاً وغير رسمي.‏
إن أغلب مشكلات الاتصال بين الناس تأتي من حقيقة مؤداها أن المستعمل غير الناجح للاتصال مع الآخرين لا يعرف أن استعماله للغة يهدف للإيصال والتوصيل.‏
من هنا ينبغي تطوير هذه المعايير لفهم النص وذلك من خلال تضميننا إياها النتائج التي توصل إليها محللو الخطاب. ومن هذه النتائج مايلي:‏
1 ـ لقد أثبتت الدراسات أن الوثائق والعقود والاستمارات وغيرها من الأشكال المكتوبة لا تعد نصوصاً، إذ ليس فيها جمل متساوقة وتامة. إن الترابط بين المفردات والجمل هنا يُظهر أنه ترابط إجرائي أكثر منه ترابطاً دلالياً ومنطقياً وبلاغياً، اللّهم إلاّ ذلك الترابط النثري الموجود بين هذه المفردات والجمل. وبمعنى أدق إن بنية الوثائق المكتوبة هنا هي بنية سرد وفهرسة في الوقت نفسه.‏
2 ـ إن أشكال الوثائق والعقود المكتوبة تستخدم صفة التكرار وإحالة الضمائر إلى مراجعها ثم المعلومات الجديدة، وفق هرمية معينة.‏
والحقيقة أن الهدف من بحث هذه الأشكال هو فهم الوثائق المكتوبة وتطويرها بحيث تتطلب أجوبة منطوقة سريعة تحتاج إلى "تفكير مسموع".‏
إن البحث يجري الآن حول كيفية استخدام القراء لاستراتيجيات وطرائق تساعدهم على فهم النص لكي يتمكن القراء من كيفية إعادة بناء النص لجعله أكثر فهماً.‏
إن محللي النصوص يحاولون وضع دليل يعلم الناس كيف يتعاملون مع الوثائق والعقود ويحاولون أيضاً أن يضعوا مبادئ معينة من أجل تصميم وثائق وعقود أكثر فهماً للناس الذين لا يدركون ما هو معنى الوثيقة أو العقد.‏
وينبغي ألاَّ ننسى أن هذه الوثائق والعقود هي شكل من أشكال الخطاب المنطوق والمكتوب الذي يسعى علم تحليل الخطاب لدراسته وفهمه.‏
وهكذا لابد من معرفة الإشارات العلائقية للنص، أي معرفة كيفية بناء الخطاب وسبكه عبر الثقافات. إن معرفة من هذا النوع يمكن أن تشكل بحثاً تجريبياً للصفات الإنسانية التي تسم وتطبع "المقدرة الاتصالية"، في الدماغ البشري. ذلك أن المعلومات التي تشكل الخطاب لا تأتي من التقنيات اللغوية فحسب بل من تداخل التجارب عند المشاركين في الخطاب أيضاً (أي من خلال العائلة، الصداقة، المهنة...الخ). فهذه التجارب غير المباشرة في النص تتصف أحياناً بالغموض وأنها خاضعة لتأويلات عديدة على خلاف التقنيات اللغوية المعجمية الواضحة الدلالة.‏
وهذا يقودنا إلى حقيقة مؤداها أن "المعرفة" لا يمكن أن تكتسب من خلال القراءة في المدرسة... بل لابد من الاتصال الشخصي ـ وفي سياقات مختلفة ـ لاكتساب تلك "المعرفة". نأتي إلى حقيقة‏
أخرى هي أن متعلمي اللغة سيواجهون طبقاً لذلك صعوبة حقيقية. ففي الوقت الذي ينبغي عليهم أن يؤسسوا اتصالات شخصية مكثفة من أجل اكتساب المعرفة، فإن نقص الاستراتيجيات وضعفها عندهم يحول بينهم وبين تأسيس مثل هذه الاتصالات. ولكي يكتسب متعلم اللغة هذه الاستراتيجيات لابد من وجود شروط خارجية كتلك الموجودة بين الأم وطفلها.‏
والواقع ليست المشكلة الاتصالية نابعة من تداخل الاثنيات الثقافية بل إنها تنبع أحياناً من عوامل اقتصادية أو اختلافات في الأهداف والتأملات التي تريدها هذه الإثنيات، أو أنها تعود لعوامل تاريخية أو ثقافية (حضارية).‏
ولكننا نحن اللسانيين علينا تحديد هذه المشكلات التي يسببها الاتصال عموماً. ولا ينبغي تحديد هذه المشكلات بالرجوع إلى نحو اللغة وحده، بل لابد من الرجوع إلى تقنيات تحليل الخطاب لمعرفة "الوظائف التي تفرزها استراتيجيات الخطاب". فلابد من التركيز على الأحداث الواقعة التي تجري في المحاكم والوظائف والمستشفيات والعيادات واجتماعات اللجان...الخ. حيث أن هذه الاستراتيجيات المختلفة المستخدمة في هذه الأحداث الواقعة تلعب دوراً مهماً في تقويم الأداء الخطابي.‏
ويدخل في هذا المضمار أن العرب الذين يتكلمون الإنكليزية يتقنونها في مستوى الجملة النحوية المعقدة والصحيحة فقط، ولكنهم يفشلون في إيصال ما يريدون إيصاله في مستوى العملية الاتصالية ككل. ذلك أنهم يوظفون الاستراتيجيات المتعلقة بالخطاب العربي كلما تكلموا باللغة الإنكليزية.‏
ويلاحظ هذا عندما يستمع العربي إلى متكلم إنكليزي يتكلم الإنكليزية مع العربي الذي يوظف استراتيجيات الفهم والاستيعاب والتأويل المتعلقة بمعاني الخطاب العربي من أجل فهم النص الإنكليزي المنطوق.‏
إن بحثاً من هذا النوع لخطابات مختلفة تنتمي إلى ثقافات عديدة يمكن أن يكون أساساً لبناء نظرية للمقدرة الاتصالية التي سوف تسلط الضوء على المشكلات الأساسية في عملية الاتصال الإنساني.‏
إن نظرية تحليل الخطاب المنشودة ينبغي أن تحقق الشروط التالية:‏
1 ـ يجب أن تراعي جانباً من أهم الجوانب وهو الفهم الشامل للخطاب، أي عليها أن تشرح القدرة الإدراكية ـ الفهمية‏
على نحو يفوق الشرح الجزئي لنحو الجملة.‏
2 ـ يجب أن تقدم شرحاً كافياً لمفاهيم لا يمكن الاستغناء عنها مثل مفهوم الابتداء‏
(Topic) ومفهوم البؤرة (Focus)، ومفهوم الانسجام (Coherent)، ومفهوم النسبية (Relativeness)، ثم مفهوم بنية النص (Structure of text).
3 ـ ينبغي على هذه النظرية أن تؤسس قواعد اتصالية تشرح عملية النشاط الاتصالي ككل أكثر من تأسيس قواعد شكلية جامدة. وبمعنى آخر، ينبغي على هذه النظرية أن تتضمن نظرية السببيّة وتتضمن تقنيات معينة لإنتاج الخطاب اللغوي ثم إنتاج استعمالات مختلفة للغة.‏
4 ـ ينبغي إلى هذه النظرية أن تحدد الكمية التي تلزم من "دلاليات" نحو الجملة، ثم الكمية التي تلزم من "نحويات" نحو‏
الجملة من أجل معالجته في تحليل الخطاب تاركة ما يتعلق بـ"صرفيات"، نحو‏
الجملة.‏
وبهذا يكون هناك نظام دلالي ونحوي واحد لكل وجوه التحليل النحوي والدلالي سواء أ كان في مستوى الجملة أم في مستوى النص.‏
ويبدو لـ"ج.مورغن" العالم اللساني‏
(1982)، أن إعادة صياغة النحو من منظار الخطاب هو شيء غير قابل للتصديق منذ أن كان هناك علاقات ارتباطية بين البنية النحوية وبين الوظيفة الاتصالية. ثم أن هناك مشكلة أخرى وهي أن البنية النحوية لا تتبع دائماً الوظيفة الاتصالية. على كل حال إن تدفّق المعارف القيمة نتيجة للبحث التجريبي هو الذي سيحدد بنية النظرية ووظيفتها وعملها في الجملة والنص على حد سواء.‏
الهوامش:‏
(1)-Tannen, D.(1982) Analzing Discourse: Text and Talk. Georgetown University Press. Washington. D.C.
(2)-Van Dijk, T. (1972).“Some aspects of text grammar” The Hague: Mouton.
(3)-Gumperz, John (1982.p.323). “The Linguistic Bases of Communicative competence” In: D.Tannen (ed). Analyzing Discourse: Text and Talk. Georgetown University Press. Washington. D.C

**********************************************************

السميوزيس
والقراءة والتأويل
سعيد بنكراد
سنتناول في هذا المقال المقتضب بعض التحديدات الخاصة بمفهومين مركزيين في التلقي والتأويل؛ يخص الأمر في البداية مفهوم السميوزيس كما ورد في السميائيات، والسميائيات البورسية تحديدا. وسنتناول هذا المفهوم من زاوية مردوديته في تحديد أسس التأويل وتعدديته وكذا ميكانيزماته في الانطلاق والنمو والاضمحلال. ويتعلق الأمر في مرحلة ثانية بمفهوم الطوبيك (الفرضية أوالفرضيات الأولى التي يكونها القارئ عن المعنى) كما ورد عند إمبرتو إيكو في كتابات متعددة. وسنحاول تحديد موقعه من استراتيجية فعل القراءة من جهة، فكل قراءة يحكمها تصور مسبق - على شكل إرهاصات أولية ومبهمة - يحدد التحيينات المقبلة، وتحكمها من جهة ثانية، غاية تأويلية تهدف إلى الوصول إلى نقطة دلالية بعينها ضمن سيرورة تأويلية محددة بسياق خاص.
السميوزيس : سيرورة لإنتاج الدلالة
إن العالم الذي تحيل عليه النصوص - ما يتصل بالكائنات والأشياء والأهواء والرغبات والأحلام - عالم ينمو ويكبر ويضمحل داخل نسيج السميوزيس ( 1). فهو، اعتبارا لهذا، محكوم بسلسة من الإحالات الذاتية التي توضح نفسها بنفسها اعتمادا على قوانينها الداخلية فقط، واستنادا إلى منطق الإحالات ذاتها. فما نطلق عليه "الواقع" و"المرجع" و"الموضوع" و"الشيء في العالم الخارجي"، "كيانات" لا يمكنها أن تلج عالم التدليل، أي عالم النصوص، إلا من خلال بوابة الإحالات الرمزية التي تقود إلى خلق تصورات متنوعة تتكفل السميوزيس (السيرورة المؤدية إلى إنتاج دلالة ما) بصياغة حدودها القصوى والدنيا، الحقيقية منها والوهمية.
فكل شيء يوجد داخل النص : فالنص بؤرة التمثيل وسند لمنطق الإحالة وانسجام العناصر وتناظرها. وكل شيء يوجد خارجه، فعناصر النص تهاجر نحو أقاليم أخرى بحكم التجاور والإحالة الرمزية والتذكر والتلميح : لا يمكن صياغة خطاب عن "الأبيض" دون إسقاط آخر يخص "الأسود" ، ولا يمكن الحديث عن "الأفراح" دون أن يلوح في الأفق ما يحيل على "الأحزان". من هنا، فإن الضمانة الوحيدة على تماسك النص وانسجامه هي بالضبط هذا الفصل بين المتحقق والضمني، بين المعطى المباشر وبين ما يتسرب - في غفلة عن الكلمات - إلى النص ليشكل ذاكرة الخطاب وذاكرة القارئ ويرسي قاعدة الحوار بينهما.
ولهذا، فإن الأصل في التمثيل (بناء نص روائي أو صياغة قصيدة شعرية أو رسم معالم نص مسرحي ...) هو القيام باقتطاع ما يصلح لبناء كون مستقل بذاته، يظل إدراكه وفهمه وتأويله مع ذلك مشروطا باستحضار ذاكرته الكبرى، أي محيطه المباشر و غير المباشر.
وهكذا عوض البحث عن معادل "موضوعي" في عالم غير عالم النص بوجوهه المتحققة والضمنية أوالمشار إليها، وجب البحث في أشكال اشتغال نسيج السميوزيس ودورها في نسج خيوط عوالم نطمئن إليها ونتعامل معها باعتبارها جزءا من عالمنا الخاص. فما هو مضمون مقولة السميوزيس وما هو موقعها ضمن الفعل الإنساني المتميز بقدرته على الإنتاج الدائم للمعاني؟. وما الرابط بين هذه السيرورة التدليلية وبين ما نطلق عليه "فرضيات القراءة" (ما يطلق عليه إيكو الطوبيك topic) من جهة، وبينها وبين القارئ الذي يستدعيه بناء معنى أو معاني نص ما.
تعد السميوزيس في معناها "العامي" والمباشر سيرورة متحركة لإنتاج الدلالة وتداولها واستهلاكها، سيرورة ستنتهي إلى الذوبان في فعل يتقمص مظهرالعادة والقيم والتقاليد وكل أشكال السلوك التي تتحول مع الزمن إلى معيار يبنى على أساسه العنصر المتحقق. ويعد هذا الفعل من زاوية السميوزيس >عادة داخل الإنسان وقانونا داخل المجتمع< (2).
ولقد كان شارل سندرس بورس (C. S. Peirce) أول من أدخل مفهوم السميوزيس إلى ميدان السميائيات. بل لقد كان أول من أرسى دعائم نظام للتدليل وإنتاج الدلالات يمر عبر ميكانيزم خاص أطلق عليه اسم السميوزيس. والسميوزيس في نظره "سيرورة يشتغل من خلالها شيء ما كعلامة" وتستدعي، من أجل بناء نظامها الداخلي، ثلاثة عناصر هي ما يكون العلامة ويضمن استمرارها في الوجود : ما يقوم بالتمثيل (ماثول) وما يشكل موضوع التمثيل (موضوع) وما يشتغل كمفهمة تقود إلى الامتلاك الفكري " للتجربة الصافية " ( مؤول).
استنادا إلى هذا التصور يقتضي إنتاج دلالة ما استحضار سيرورة تدليلية تقود من أول عنصر إلى آخر عنصر داخل سلسلة من الإحالات التي لا يمكن الإخلال بتتابعها وانتظامها دون الإخلال بنظام التدليل ذاته : فكلمة " شجرة " تدل لإنني أستطيع التمييز داخلها بين :
1- أداة للتمثيل ( يتعلق الأمر بالمتوالية الصوتية التي نستعين بها من أجل استحضار عالم ذهني، وقد يتعلق الأمر بمادة أخرى للتمثيل ).
2- شيء ما موضوع للتمثيل، ( سواء كان الموضوع واقعيا أو متخيلا أو قابلا للتخيل).
3- العالم الذهني الذي يربط رمزيا بين الموضوع وأداة التمثيل. كما يبرر العلاقة الموجودة بينهما.
إن غياب عنصر من هذه العناصر الثلاثة سيؤدي إلى تدميرالعلامة ومن ثم إلى تحجيم قدرتها على إنتاج دلالة ما.
إن هذا الترابط بين العناصرالثلاثة ( أشكال وجود التجربة في واقع الأمر ) يفسر ما قلناه سابقا عن الترابط بين الداخل والخارج في النص وفي التجربة الفنية ككل. فما دمنا لانستطيع تحديد كنه أي شيء خارج أدوات التمثيل، فإن التجربة الإنسانية في كليتها تحضر عبر وجهها الرمزي، ولا يمكن إدراكها إلا عبر هذا الوجه.
وفي هذه الحالة يمكن القول إن الدلالة ليست معطى جاهزا يوجد خارج العلامات وخارج قدرتها في التعريف والتمثيل، فالمعنى لا يوجد في الشيء وليس محايثا له، إنه يتسرب إليه عبر أدوات التمثيل، وهو ما يشير إلى أن إدراك الكون ليس مباشرا، فالشيء لا يوجد في ذاته، بل مثواه الوعي الذي يدركه.
وعلى هذا الأساس يمكن فهم البناء النظري الذي تندرج ضمنه هذه المقولة. فالتصور العام الذي يقدمه بورس للسميوزيس يستند إلى مبدإ سميائي يقول بإمكانية وجود إحالة من المحتمل ألا تتوقف عند حد بعينه. فعندما يتم التمثيل وتنفلت الدلالة من عقالها، فإن أمر إيقافها عند حد بعينه يصبح مستحيلا. فالتمثيل يحيل على الشيء الممثل وفق مبدأ للتوسط، ولا يقود التوسط إلى تعيين معنى وإنما يفتح السيرورة الدلالية على كل الاحتمالات الممكنة. وبعبارة أخرى فإن الفكر لا يمكن أن يترجم إلا في فكر آخر، فمادام الشيء في حد ذاته علامة، فلن يكون مجديا البحث عن إحالة خارج ما يرسمه الفكر أي خارج ما ترسمه العلامات.
ورغم ذلك، إذا كنا لا نستطيع تصور نهاية بعينها للنفق التأويلي، فنحن قادرون، مع ذلك، على رسم بداية له. فالأول محدد والنهائي محتمل، والبداية خطوة أما النهاية فدروب تسير في جميع الاتجاهات وبلا أفق ولا تخوم. ولهذا يمكن القول إن فعل العلامة مرتبط بنشاطين مختلفين ومتكاملين يقود أحدهما إلى الآخر :
1- النشاط الأول مرتبط بفعل إنتاج الدلالة في مستواها الأولي، أو مستواها التقريري الحرفي. فالطابع " الموضوعي" ( أولنقل الطابع البيذاتي) للمعنى يتحدد من خلال وجود مادة أولية منها تشتق كل المعاني " النفعية" الموجهة نحو الاستجابة لحاجات أولية. فالعلامة تعين وتسمي وتشير، وفي هذه الحالة، فإنها لا تتجاوز حدود الإشارة إلى ما هو معطى من خلال حدود فعل التمثيل ذاته : أي ما يخص معنى العلامة ومعنى النص ومعنى الواقعة وذلك ما تقتضيه عناصر التجربة المشتركة.
وبما أن الخروج من دائرة التعيين إلى ما يشكل بحق عالم التأويل بمفهومه الواسع يقتضي التخلص من مقتضيات الإحالة المباشرة ( الإحالة الأولى ) وإعادة ترتيب العناصر وتنظيمها وفق علاقات جديدة، فإن الضمانة الوحيدة على سلامة هذه الحركة التدليلية وقدرتها على إنتاج الدلالات المتنوعة هو وجود هذا "الحد الأدنى المعنوي" المرتبط بتجربة حياتية لا تتجاوز حدود الاستجابة للبعد النفعي فيها ( يمكن بالتأكيد في هذه الحالة التساؤل عن فحوى النفعي ومتى تكون الحاجة نفعية أو مرتبطة بلذة. وهنا أيضا يقتضي الأمر تحديد السياق المباشر لفعل العلامة). وبعبارة أخرى فإن التأويل اللامتناهي يقتضي وجود مدلول أولي ( كيفما كان وضعه) تبنى على أساسه مجمل المعارف التي تنتجها حركة الإحالات اللاحقة. وهذا ما يقودنا إلى الحركة الثانية ضمن فعل السميوزيس.
2- النشاط الثاني هو الذي يقذف بالعلامة من موقعها التعييني المباشر، إلى عالم جديد من الدلالات؛ وهذه الدلالات ليست معطاة بطريقة مباشرة من خلال ما يبدو من ظاهرالعلامة، بل يشير إلى تجربة ضمنية، فـ >العلامة تحتوي أو تشير إلى مجمل مكوناتها الأكثر إيغالا في القدم< (3). فإذا كانت الإحالة الأولى ( أو الإحالات الأولى ) (4) تحدد منطلقا لسيرورة ما، فإن الإحالات اللاحقة تخلق سلسلة من المسيرات التأويلية التي تدخل عبرها الذات المؤولة ( القارئ) كعنصر أساس في عملية إنتاج الدلالات المتنوعة.
ومع ذلك، لا وجود لفاصل بين النشاط الأول والثاني، فلا يمكن تصور واقعة تكتفي بإنتاج دلالة واحدة خاصة بالتعيين، وبالمثل لا يمكن تصور فعل تأويلي لا يسلم بوجود مادة ( نص) سابقة عنه. إن النشاط التأويلي، وفق الغايات السميوزيسية، المعلنة أو الضمنية، فعل كلي، إن كانت آثاره المباشرة هي تعيين دلالة ما ( تعيين ما ) فإن عمقه لا تحدده سوى الإحالات التي تجعل من أي نسق سميائي بؤرة للتوالد الدلالي اللامتناهي. و> التأويل اللامتناهي أمر ممكن عند بورس. فالواقع يمثل أمامنا باعتباره متصلا (continuum ) حيث لا وجود لكيانات مطلقة< (5).
ورغم إقرارنا المبدئي بأن السميوزيس لامتناهية في الزمان وفي المكان، فإن ثقل الحاجات الإنسانية الدائمة - التواصلية منها أساسا - يقود إلى تحجيم هذه الطاقة الجبارة وتسييجها ضمن سياقات تمكن الذات من الاستقرار على دلالة بعينها. وبناء على ذلك فإن > غاياتنا المعرفية تقوم بتأطير وتنظيم وتكثيف هذه السلسلة غير المحددة من الإمكانات. فمع السيرورة السميوزيسية ينصب اهتمامنا على معرفة ما هو أساس داخل كون خطابي محدد< (6). وهذا يعني أن السيرورة التأويلية - رغم كل ما قلناه - متناهية من حيث التجسيد العملي، أي من حيث ارتباطها في التحقق الفعلي بسياقات خاصة تمنح وحداتها هوية خاصة.
وهذا ما يشكل الفاصل الحقيقي بين ما اصطلح عليه بالمتاهة التأويلية ( dérive interprétative) وبين السميوزيس في التصور الذي يقترحه بورس. ففي المتاهة التأويلية تنبعث الدلالة من فعل العلامة كسيرورة بلا رادع ولا ضفاف ولا حدود. فما نحصل عليه من معرفة، بعد أن يستنفد الفعل التأويلي طاقاته، لا علاقة له بالنقطة التي شكلت بداية التأويل؛ فبإمكان أية علامة أن تحيل على أية علامة أخرى، كما بإمكان أي شيء أن يشير إلى شيء آخر. > وفي هذه الحالة فإن الإيحاءات تنتشر بشكل سرطاني بحيث إننا كلما انتقلنا إلى مستوى أعلى تم نسيان العلامة السابقة أو تم محوها، فجوهر اللذة التي تخلقها المتاهة تكمن كلية في الانتقال من علامة إلى أخرى، ولا غاية لهذه الرحلة اللولبية بين العلامات والأشياء سوى هذه اللذة ذاتها < (7).
ويقدم راستيي في كتابه " الدلالة التأويلية " (8) مثالا قد يصدق على الحالة التي نحاول تشخيصها. يقول المثال : " أنت مساعد ، ستظل الطماطم خضراء ( Vous êtes assistant, les tomates resteront vertes) . إن الجملة تتكون من جزءين لا رابط بينهما من حيث الدلالة المباشرة التي تحيل عليها الوحدات المكونة للجملة. فأن يربط مصير الطماطم بمصيرالأساتاذ المساعد ، فذاك أمر في غاية الغرابة، ومع ذلك فإن راستيي "ينبش" في ذاكرة الكلمات، و"يعدل" و"يرتب" و"يصوغ العلاقات" ليكتشف في النهاية وجود رابط بين الجزء الأول من الجملة وجزئها الثاني، وهو ما يشكل ، في نظره ، انسجام الجملة وإمكانية تداولها باعتبارها كونا دلاليا "مقبولا" . وهذا الرابط يتحدد من خلال الفصل بين كيانين :
1- كيان المؤسسة الجامعية التي تحكمها هرمية في الإطارات تجعل من الأستاذ "المساعد" أدنى إطار وأوله، فهو إذن يشكل مرحلة البداية في الحياة المهنية للأستاذ، وفي هذه الحالة نكون أمام المعنم / بدئي/.
2- حالة الطماطم التي تمر بمراحل لكي تصبح صالحة للاستهلاك. فهي تنتقل من الفجاجة إلى النضج من خلال الانتقال من اللون الأخضر إلى اللون الأحمر. وفي هذه الحالة فإن اللون الأخضر يحيل على البداية ، أي يشير إلى المعنم / بدئي/.
والخلاصة أن الجملة "تريد أن تقول" : أنت مساعد وستظل مساعدا. فنحن في هذه الحالة لا نبحث عن دلالة للجملة، وإنما نبحث عما يجمع بين أجزائها المتنافرة .
وعلى النقيض من ذلك فإن مفهوم السميوزيس - في تصور بورس على الأقل - يشير إلى شيء مخالف تماما لهذا. فعلى عكس المتاهة، فإن الإحالات المتتالية لا تقطع صلة اللاحق بالسابق، كما أنها لا تلغي الروابط بين عناصرالشبكة التأويلية الواحدة. فالعلامة تكتسب مزيدا من التحديدات كلما أوغلت في الإحالات والانتقال من مؤول إلى آخر. من هنا، فإن الحلقات المشكلة لأي مسير تأويلي تقود إلى إنتاج معرفة أعمق وأوسع من تلك التي تقدمها العلامة في بداية المسير. وهكذا فإن ما نحصل عليه من معرفة في نهاية السلسة هو تعميق للمعرفة التي تطرحها العلامة في حدها البدئي. فما تقوم به الإحالات هو تعميق للمعرفة السابقة لا نفي لوجهها البدئي، فالعلامة > هي شيء تفيد معرفته معرفة شيء آخر < كما يقول بورس.
ولتوضيح هذا التوالد ، نستعين بمثال يورده إيكو ، في سياق غير سياقنا، لكنه يصدق مع ذلك على حالتنا. يقول المثال : > في مواجهة الأضواء المنظمة للسير في مفترق طرق ما، أعرف أن " الأحمر" يعني/التوقف/، في حين يعني " الأخضر" /المرور/. لكني أعرف أيضا أن الأمر / توقف/ يعني /إجبارية /، في حين أن السماح بـ /مرور/ تعني " اختيار حر" ( فبإمكاني عدم اجتيازالطريق ). وبالإضافة إلى ذلك، فأنا على علم بأن /الإجبارية/ تعني " ذعيرة نقدية "، في حين أن / الاختيار الحر / يدل تقريبيا على " يجب اتخاذ قرار ". < (9)
ويقدم للمزيد من التوضيح الترسيمة التالية :
ذعيرة دال دال قرار
وجوب دال دال اختيار حر
توقف أحمر أخضر مرور
م د د م
وبالتأكيد ففي هذا المثال برهنة كافية على نوعية هذا التوالد الدلالي وميكانيزماته المرتبطة بالإحالات التي تطلق عنان السميوزيس لارتياد مناطق دلالية من كل الأنواع والأحجام. فداخل هذا التوالد هناك :
1- علاقة بين الوحدات قائمة على النمو التصاعدي لـ " الكمية المعنوية " التي تتوفرعليها النواة الدلالية المعطاة مع عملية التمثيل الأولى. فكل إحالة تضيف قدرا من الدلالة إلى الإحالة السابقة عنها.
2- إن نقطة "النهاية" ( إنها نهاية مفترضة، فهي كذلك ضمن سياق خاص فقط ) داخل هذه السيرورة التدليلية تقوم بتعميق معرفتنا بما وضع للتداول في الإحالة الأولى. وهكذا، فإن معرفتنا بالأحمر قد ازدادت وتنوعت دروبها دون أن تفقد، مع ذلك، الصلة بالدلالة التي منحت لها في بداية السلسة.
من هنا، فإن انتفاء الطابع المطلق عن الكيانات المشكلة للكون الإنساني، هو ما يَحُد، من زاوية أخرى، من سلسلة الإحالات وتكاثرها. فالقول بنسبية الواقعة معناه القول إن ما يبدو صحيحا في هذا السياق ليس كذلك في سياق آخر وضمن شروط أخرى. وبناء على هذا، فإن > التأويل ليس وليد بنية الذهن البشري، وإنما هو نتاج للواقع الذي تقيم دعائمه السميوزيس<(10).
في ضوء كل ما سبق، فإن النص عندما يتحدد ككيان مستقل الوجود من حيث قدرته على الانفصال عن المادة التي تؤثث الكون الإنساني كله- أي عما يشكل الوجه المتصل للكون- فإن سلسلة المؤولات تميل إلى الانكفاء على نفسها وتبحث عن شكل دلالي تستقر عليه. إن النص، من هذه الزاوية إذن، لا يشتمل على معنى، ولا حتى على معاني، ولا يضم بين دفتيه دلالة نهائية كلية أو جزئية، بل هو خزان كبير لسياقات بالغة التنوع والتعدد والتجدد. وللذات المتلقية ( القارئ ) وحدها القدرة على تحيين هذه الدلالة أو تلك ضمن هذا المسيرالتأويلي أو ذاك ضمن شروط "الانتقاء السياقي" والظروف المقامية الخاصة بكل فعل قراءة.
وفي هذه الحالة كل شيء يقاس بالعلاقة الموجودة بين النص والقارئ ( بين العلامة ومستهلكها )، فضمن هذه العلاقة تتحدد القراءات وتتناسل التأويلات. وعلى هذا الأساس، فإن الاعتراف بوجود هذه العلاقة هواعتراف- ضمني أو صريح - بكيان مستقل عن الذات التي تحاوره : إنه كذلك من حيث المادة والبناء ومقام النشأة.
وتعد هذه الاستقلالية، ربما على عكس ما يتصوره البعض، الضمانة الوحيدة على غنى التأويل وتعدديته. وربما يتعلق الأمر بطريقة أخرى للقول إننا لا نؤول ما بداخلنا، ولكننا نقوم، عكس ذلك، بوضع معرفتنا ( موسوعتنا على حد تعبير إيكو) في خدمة مادة هي منطلق التأويل وأصله. من هنا، فإن كل قراءة هي خلق لسياق جديد يستمد مشروعية وجوده من المادة الموضوعة للتأويل. وبما أن "الوعي الخالق للعمل الفني" وعي جزئي بالضرورة، فإن النشاط التأويلي لا يمكنه أن يكون إلا من نفس الطبيعة. لذا فإنه يصل في مرحلة ما إلى استنفاد كل طاقاته الإبداعية ليتوقف عن إنتاج دلالات جديدة، ليفسح المجال لوعي جديد ضمن شروط تاريخية جديدة ولينتج دلالات تنسجم وحجم الموسوعة الجديدة.
الطوبيك : فرضية للقراءة والتأويل
ومن هذا المنطلق بالذات، ووفق غايات تأويلية محض، أدخل إيكو إلى التداول النقدي مفهوم الطوبيك (11) لينتشل التلقي من وهم التعدد التأويلي المطلق، ومن الفهم الأحادي للنص في الآن نفسه. وكما سنرى لاحقا، فإن هذا المفهوم ليس مرتبطا بالمادة المضمونية ولا محكوما بطبيعتها، بل هو رهين في وجوده واشتغاله بالذات التي توجد في تماس مع هذه المادة. وهو من هذه الزاوية، يعد تصورا أوليا و"حدسيا" للمعنى. إنه يمثل، عند القارئ، الأشكال الأولى لمقاربة المعنى وفق خطاطة يتبناها هذا القارئ ويباشر وفقها عمليات التأويل اللاحقة.
ويعرف إيكو الطوبيك > بأنه فرضية مرتبطة بالقارئ الذي يقوم بصياغتها بطريقة بسيطة على شكل أسئلة من نوع " ماذا يريد النص قوله ؟" لتترجم في أجوبة من نوع " ربما يتعلق الأمر بالقضية الفلانية ". ويعد من هذه الزاوية أداة سابقة على النص. ولا يقوم النص إلا بافتراضها إما ضمنيا وإما بالإشارة إليها صراحة من خلال مؤشرات مثل العنوان أوالعناوين الفرعية أو من خلال الكلمات /المفاتيح. وإلى هذه الفرضية يستند القارئ في تفضيله لبعض الخصائص الدلالية للوحدات المعجمية التي يتألف منها النص واستبعاده لأخرى بغية الوصول إلى الانسجام التأويلي الذي يُطلق عليه التناظر<.(12)
إن التوسط الذاتي الذي يشير إليه مفهوم الطوبيك يفترض القيام بفصل بين المضامين التي يحتضنها النص وبين العمليات الذهنية المرافقة لأي نشاط تأويلي. فما بين الذات القارئة التي تقوم بالتجسيد ( بمفهوم جماليات التلقي )، أي تحيين مجمل معطيات الموسوعة الثقافية وفق حاجات يفترضها النص لكي يسلم مفاتيح قراءاته، وبين المعرفة التي قد نحصل عليها من خلال فعل التأويل، يتسرب "الانتقاء السياقي" كحد فاصل بين التأويل الذي لا تحكمه ضفاف ولا حدود، وبين مفهوم " المسير التأويلي" ( parcours interprétatif). ولهذا السبب جعل إيكو من مفهوم الطوبيك الأداة المركزية في التحكم في دهاليز السميوزيس ، فـهو > يقوم بتقليص حجمها وتكثيفها، كما يقوم أيضا بتحديد أوجه التحيين داخلها< ( 13) ، أي تحديد مجمل الممكنات التأويلية القابلة للتجسيد من خلال القراءت المتنوعة.
إن الأسئلة التي يمكن أن يطرحها القارئ على النص، وكذا الدروب التي يحاول رسمها ليلج من خلالها إلى عالم النص، تلقي المزيد من الضوء على هذا المفهوم. فبما أن القراءة الشمولية للنص ( فعل تأويلي جامع لكل السياقات) تدخل في باب المستحيلات ( إلا في الحالة التي يقرر فيها القارئ تبني الاختصار والتكثيف وبالتالي التضحية بكل ما لا يستقيم داخل استراتيجيته التأويلية، وفي هذه الحالة نكون أمام قراءة جزئية أيضا )، فإن التأويل - من خلال مفهوم الطوبيك ذاته- يرتبط بالانتقاءالسياقي.
والانتقاء السياقي معناه خلق مسير تأويلي تنظم وفقه عناصرالنص وتحين وفقه الترسيمة الثقافية الخاصة بكل قارئ، > فما يشكل التناظرالدلالي( isotopie) ليس تواتر المعانم ( sèmes) الموضوعة للتداول، بل افتراض تناظر ما، هوالذي يقود إلى تحيين بعض المعانم، إن لم نقل كلها. ويمكن التأكد من هذا الأمر من خلال الوقائع المحسوسة. ويتعلق الأمر هنا بتطبيق مبدإ عام : إن المعنى، حتى ولو تعلق الأمر بأدني المستويات الدلالية، هو نتاج عمليات تأويلية محكومة باستراتيجية< (14) ( التشديد من عندنا).
وضمن هذا الانتقاءالسياقي تدخل كل "قواعد الإحالة" التي يبنى النص ويؤول وفقها : الإحالة المباشرة على عناصره، الإحالة على ما يقترحه الاختيارالتأويلي، الإحالة التي تقود إلي تحيين ممكنات دلالية واستبعاد أخرى ضمن نفس الواقعة. وهذه الإحالات هي ما يشكل محيطه وما يشكل سياقاته وشروط إنتاجه وقراءته أيضا. فكل هذه القواعد تساهم في بلورة كون دلالي منسجم يصاغ انطلاقا من إعادة تنظيم عناصر تنتمي إلى عالم يعج بالممكنات المتنوعة التي تصل إلى حد التناقض أحيانا.
ويحضرنا في هذه اللحظة فيلم ظهر منذ سنوات بعنوان : " Les dieux sont tombés sur la tête ". يصورالفيلم حياة أفراد قبيلة مهملة في أدغال إفريقيا حيث السكينة والهدوء، وحيث تغيب عن العلاقات الإنسانية عقد التملك والتسلط. في هذا الجو المثالي يلقي طيار من أعلى السماء بقنينة كوكاكولا فارغة لتسقط وسط القبيلة لتشوش على كل شيء، وستفقد هذه القبيلة انسجامها ووحدتها وسلمها نتيجة للمحاولات المتعددة لـ : تأويل" هذه القنينة وتحديد وظيفتها. لقد قُرئ هذا الفيلم من زوايا متعددة. نكتفي هنا بذكر قراءتين متناقضتين كليا. فالقراءة الأولى رأت في الفيلم قمة في تصوير الصفاء الإنساني والنقاء الحضاري، إنه يحتفي ويمجد " الإنسان" الذي لم تستعبده الآلة والملكية بعد ، ومن ثم فهو دعوة إلى التشبث بهذا النمط من الحياة ورفض كل ضروب التمدن والحضارة.
أما القراءة الثانية فهي نقيض للأولى. فقد رأت في الفيلم عملا عنصريا مشينا، فهو يعمل بكل الوسائل على تشويه صورة إفريقيا، إما من خلال التركيز على انقلاباتها الدموية وعلى تخلفها في استعمال الأسلحة التي تستوردها من الغرب، وإما من خلال تصوير حياة كائنات بشرية تعيش خارج " الحضارة " وخارج" التاريخ". ومن ثم فهو دعوة مقنعة إلى الإبقاء على "التخلف" .
وما يهمنا في القراءتين معا ليس مضمونهما - فتلك حكاية أخرى قد تدفع بنا إلى تقديم قراءة ثالثة لا علاقة لها بالقراءتين السابقتين- وإنما الطريقة التي يستند إليه فعل التأويل. فالقراءتان معا تنطلقان من نفس العناصر، وهي العناصرالتي يراد لها أن تحيل على كون أو أكوان دلالية خاصة. إلا أن كل قراءة من القراءتين تدرج هذه العناصر ضمن موسوعة ثقافية سابقة، تتم وفقها عملية التأويل. وهذا معناه أن التأويل لا يوجد في تلك العناصر بل يبزغ من امتزاجه بهذه المعرفة التي توجد في محيط النص. لذا يمكن القول بأن الأمر يتعلق في القراءة الأولى كما في القراءة الثانية بمسيرتأويلي له قواعده ومنطقه ونتائجه الدلالية .
> فالسيناريوهات والتمثيلات المعنوية قائمة على أساس وجود سميوزيس لا متناهية. وباعتبار طبيعتها هذه، فإنها تستدعي انخراط القارئ الذي عليه أن يحدد متى سيقوم بتوسيع دائرة التأويل اللامتناهي هذا ومتى عليه أن ينهيها < (15). إن هذه الحركة لا يمكن أن تتم إلا من خلال افتراض وجود تصور مسبق عن المعنى تختزنه الموسوعة الثقافية للقارئ . وفي هذه الحالة، فإن الطوبيك، المفهوم الذي يقترحه إيكو ، لا ينهض صمام أمان على مصداقية القراءات وصحتها فتلك مسألة من طبيعة أخرى، وإنما على الطابع المنظم للفعل التأويلي، أي تنظيم الدلالة في مسيرات تأويلية.
إن كل قراءة هي خلق لسياقات وكل سياق ليس سوى تطبيق لفرضية الطوبيك. وإلى حين تجسيدها في سياق خاص تظل السميوزيس لا متناهية. > فهي تغلق في كل لحظة ولا تغلق أبدا. ذلك أن نسق الأنساق السميائية الذي يبدو، بشكل مثالي، ككون ثقافي مفصول عن الواقع، يقود في الحقيقة إلى الفعل في العالم لتغييره. إلا أن كل فعل تغييري يتحول بدوره إلى علامة تعلن عن ميلاد سيرورة سميوزسيية جديدة < (16)
الهوامش
1- يتحدث إليزيو فيرون عن السميوزيس بقوله : " إن العالم الذي تحيل عليه العلامات عالم ينمو ويضمحل داخل نسيج السميوزيس " انظر : Eliseo Veron : La sémiosis et son monde , in Langages n! 58 , p 71.
2- دولودال تنبيه لقراء بورس ص 26
3- Umberto Eco : Les limites de l'interprétation , éd Grasset , Paris 1990 , p 371
4- أو الإحالات الأولى، فبإمكان كلمة واحدة أن تدل من الناحية التقريرية البحت على مرجعين مختلفين : العين " العضو البصري " والعين "الماء الجاري" .
5- إيكو 378 les limites p
6- نفسه ص 371
7- نفسه ص 373
8-François Rastier : Sémantique interprétative , éd P U F , Paris 1987
9- Umberto Eco: le signe, éd Labor, 1988, p102
10- les limites p 382 Eco ,
11- يرفض إيكو استعمال الثيمة ويفضل استعمال الطوبيك، لأنه يرى في الطوبيك ظاهرة تدوالية لها علاقة مباشرة بالفعل الذي ينجز القراءة، في حين أن الثيم أوالتناظر لهما علاقة بالمضمون الدلالي للنص أوالواقعة.
12- Umbero Eco : Lector in fabula , éd Grasset , 1985 p 119
13- نفسه ص 115
14- Rastier F : Sémantique interprétative , éd P U F , Paris 1987 , p 12
15- Eco :Lector in Fabula p 113
16- نفسه ص  57